غفران قسّام*
النائم اليقظ:
لم تكن الدّراسات تبحث في الخيال والأحلام قبل الفيلسوف الفرنسيّ: غاستون باشلار Gaston Bachelard إلا بوصفها نوعًا من الخبل والجنون أو تنفيسًا عن العُقد الدفينة، والرغبات المكبوتة في النفس كما في معظم ما جاء به التحليل النفسي. إذ رأى باشلار الإنسانَ كائنًا ذا طاقات كامنة في نومه وفي صحوه، فهو يجده مفكّرًا في يقظته ومحاطًا في ذهنه بعالم من الصّور المشخّصة، ويجده كائنًا يتخيّل في نومه، يحلم في عتمة تتحرّك فيها أشكال غير مكتملة وتتفكّك دون انتهاء. لهذا؛ يحدّد ماهيّة الكيان الإنسانيّ بأنّها: كائن ليليّ، وكائن نهاريّ مع ملاحظة أنّ زمن الليل والنهار في النّفس الإنسانيّة ليسا عنصرين متناقضين مطلقًا. إذ وجد في اكتشافه عالم أحلام اليقظة ما استغرب عبره عمل الفلاسفة القدماء في عنايتهم بذروة الكيان الإنساني بالفكر متناسين حالة ما قبل الفكر وهي: الأحلام. فالأحلام: هي ما يراه النائم في نومه. فالإنسان النائم منفصل عن وعيه ويعيش حلمه بصورة غير واعية؛ لكنّ باشلار انتبه لنوع آخر من الأحلام: (أحلام اليقظة) التي تكون في حالة نشطة وثريّة أثناء سلوك الإنسان عملًا فيه معالجة للمادّة من حديد أو خشب أو ماء كالنّحات في نحته، وكالحداد في تطريقه، وكالأديب في لغته سواء أكان شاعرًا أم كاتبًا. فأحلام اليقظة خيال داخل عمل، يعيش علاقته بالشيء أثناء معاناته ومجابهته له. لهذا، يجد فيها باشلار نوعًا من الإرادة، والقوة التي اعتنى بدراسة صورها الفنية داخل الحالم اليقظ أو النائم اليقظة Le dormeur éveillé إذ يكون في طبقة تقع بين: الحلم بالشيء والوعي به، ويستطيع فيها الحالم تنمية مقاربةٍ للأشياء بصورة فاعلة، بل يمكن أن يصنع منها قرارات مصيريّة.
وعبر سرد حكاية الفتى (مزمّل النّور) في: (النوم عند قدمي جبل) للروائي السوداني حمّور زيادة، يظهر مزمّل ذلك النائم اليقظ الذي أعاد صياغة عيشه الإنساني في قريته، وتوسيع مهاراته وفق مراحله العمريّة التي يتنامى فيها خياله من تأمّل الأشكال والألوان في مطبخ أمه لدكان عيسى، حتى جامع القرية وإلى الحلم بثروة الحياة، والخروج عن فكرة موعد وفاته التي اشتهر بها في القرية، فهو: "ولد الموت" الذي سيموت بعد أن يُكمل عامه العشرين! إذ وظّف السّرد تلك التركيبات اللغويّة كأصوات حواريّة متقطّعة، يتخلّلها قطعٌ سرديّة وصفيّة لتقطيع زمن الموت الصريح في الحكاية وإبطائه؛ كي يعيش البطل أكثر مع أنفاس دعاء أمّه إلى أن تلمّس الحالم اليقظ مزمّل صبيحة ميلاده العشرين لحقيقة انقطاع زمن صوت الموت، إنّه: حيّ! ولم يمت! بل انتبه! عبر فنيّة الاستدعاء التي نشطت في ذاكرته بعد مشهد ممارسة الرّذيلة في غرفة طينيّة داخل حيّ العبيد. وتظهر صفة الحلميّة العاملة في شخصيّة: مزمّل حين أتاح له طوق خطاب الموت أن يعيش عزلته في أكثر ساعات النهار وضوحًا، لتسقط في أحلام تلتحق بأحلام ليليّة، تظهر في السّرد أنّها لمامًا من (الاحتلام) يرى أثرها في وجه صاحبه الحاج: سليمان، لكن تلك الحُلميّة العاملة، حفّزت عند مزمّل بانقلاب المنظورات وتنافذ الداخل إلى الخارج؛ ممّا يستطيع معه القارئ فهم سبب تحوّل شخصيّة البطل الطائعة البعيدة عن الآثام إلى عارفة بأماكن الموبقات وسلوكها. ولعلّ ذلك التحول هو ما يعبّر عنه باشلار بشعريّة الفضاء Le poétique de l'espace إذ يصبح بها العالم حميمًا، ويصير مرآة مشخّصة للعالم والكون. حيث وظّف السرد صورة النائم اليقظ بمعالجة الوعي عند مزمّل وعلاقته بالمكان (القرية وأهلها) والزمان (زمن ميلاده وزمن موته)، ومعالجة الأنا في طور فعل الحياة التي كان يحاول البقاء فيها في مطبخ أمه نهارًا، ثمّ دكان عيسى، ثم سُقيا المصلين في الجامع إلى معرفته بالحاج سليمان سائق شركة الأسمدة في العاصمة. ذلك الوعي صنع الخيال المادي عند البطل عبر علاقته بالأشياء من ثلاثة منظورات: شكلي، ومادي، وحركي. ومن الجدير بالذكر أنّ ما اعتنى به باشلار في معالجة صوره هو المنظور: الماديّ والحركي، أمّا الشكليّ فاستبعده؛ لبعده عن العمق وسطحيته -من وجهة نظره-، وخصّ به الصور المكرورة الفاقدة للأصالة والابتكار. ويظهر في الخيال المادي والحركي ذلك التناوب بين: الوعي والأنا في تكوين حميميّة فاعلة للصّورة، وتحليل إيقاع زمن عملها وتواتر بُطْئها وسرعتها، وسكونها وحركتها. ويُلَحظ أنّ السّرد يمتطي اللغة السينمائيّة في الحوار والوصف، إذ سُجّلت مشاهد مزمّل من جميع الزوايا منذ ليلة منام والدته: (سكينة) إلى ليلة الكرامة به، إلى مشهد تحنيكه الذي تظهر فيه فلسفة الصورة لتشخّص حاضر المزمّل، وحاضر ماضي عائلته التي طرقت أبواب الأولياء -حسب ثقافة القرية- لإنجابه، وحاضر مستقبل مزمّل الذي ظهر مختنقًا بفكرة هادم اللذات: الموت.
ولعلّ تلك الصّورة وظّفت أداة اللغة السينمائيّة كنظام علاماتي هو الأكثر تمكنًا في إدارة تلك الخطابات، وممّا يمكن ملاحظته أنّ فيلم: (ستموت في العشرين) -وهو العمل المستوحى من السرد- قد ظهرت حواراته وفيّة للعمل السرديّ، بل ساهم الشكل الفيلمي في دعم أهم عنصر حكائيّ فيها، وهو: حساب موعد الموت. ويلفتُ هنا توظيف المخرج لأسلوب الحساب البدائي على جدران البيوت الطينية وفق حواس البطل الذي يؤدي وظيفة تواصليّة بالنظر واللمس، فبالعينين واليدين يتواصل بخياله المادي مع عنصر الأرض فتظهر حافزة ومنعشة -كما يراها باشلار-. وتُلحَظ حافزيّـتها في انغلاق الحياة أمام مزمّل، فهو طفل بلا أصحاب، ولم يلتحق بمدرسة، ولم يحظ من الحياة سوى بنهار يقضيه في مطبخ أمه، وتجربتين في دكان عيسى والجامع؛ مما دفع بمزمّل أن يواجه الحياة بعدوانيّة ليلة ميلاده، ورغبته في اختراق حميميتها المكتنزة بإرادة عاملة، وحلميّة صاخبة؛ إذ انتبه فيها لحقيقة الحياة، وأن الناس نيام عند جبل القرية، والأموات هم الأحياء في غفلتهم وعدم انتباههم، وأن النّوم شقيق الموت.
الخيال الطّباخي:
منذ مشهد تحنيك مزمّل بريق العابد (خليفة الشيخ أبوعاقلة) وصولًا لمشاهد مزمّل مع التراب سواء في الحجرة الطينية بحيّ العبيد، أو في سيره على الرمال، أو في حفره قبره عند أسفل جبل الصحابة، تتشكّل أحلام يقظة القارئ؛ إذ يوظّف الراوي العليم وظيفته التواصلية مع المتلقي، ويدخله حيّز الخيال الطّباخي.
يتشكّل الخيال الطّباخيّ -حسب رؤية باشلار- بفضل أهمية الصلصات ومزج الطحين والزبدة والسكر، إذ يتحقّق في المطبخ انصهار كلّ ماديّة الوَفْرة، وماديّة الرّهافة. ويظهر ذلك زمن طهي عجين أحلام يقظة البطل: مزمّل، في الوقت الذي كان محرومًا من تلك الوفرة والرهافة خارج حدود مطبخ أمه. ويرى باشلار أنّه عند دراسة أحلام منزل الولادة، سيلحظ المتأمّل مثابرة أحلام المطبخ التي تغوص في تقليد بعيد، وبالتالي، سيظهر وجود نموذج أصلي/ بدئي Archetype للعجين الخيالي داخل مملكة الخيال المادي. فكلّ إنسان لديه في خياله صورة مادية للعجين المثالي، تظهر فيه معاني المقاومة ومعاني المرونة معًا. وهو ما أحدث ذلك التوازن العجيب للقوى عند مزمّل بين قبوله موعد الوفاة ورفضه؛ ممّا أعطى حيويّة فورية ليد الراوي العاملة في تشكيل العجين. وممّا شكّل الحيوية فيها: أنّ اليد تعرف بالغريزة كيفية العجين الكامل رغم وجود جانبيْن مفرطين فيها هما: الرخاوة المفرطة، والصلابة المفرطة. وتلك المعرفة يُمسك بها الخيال المادي السوي للراوي بيد حالمة ترغب بتغيير تلك المذاهب الفكرية السائدة في القرى وسلطتها في تشكيل معرفة غير حقيقية عن الغيبيات دون علم، والثورة عليها بالخروج عنها بنور المعرفة والعلم. ويرى باشلار أنّ كل حالم بالعجين -بمدلوله المعنوي- يعرف هذا العجين الكامل البَدَهي لليد بداهة الجسم الصلب الكامل في نظر المهندس، وهو عجين متوازن باطنيًا.
ويلحَظ أنّ ما بين زمن تحنيك مزمّل إلى زمن الخميرة وزمن الطهي، أمضى البطل عمره داخل زمن السرد، وقدّمت وظيفة اجتماعيّة مؤثّرة حول موضوع: النوم والموت، وجدليّة تحوّلَ البطل عبرها في بنية أحلام يقظته إلى انتباهة أكبر عن مفهوم الحياة والموت، والطاعة والمعصية، والسُّلطة والمعرفة.
هُوية النصّ:
النوم عند قدمي الجبل | عنوانه: |
2014 م عن دار ميريت وأعادت دار العين نشرها في طبعة منقحة ومصححة عام: 2019م. | عام الإصدار: |
حمور زيادة- روائي سوداني حائز على عدّة جوائز عربيّة وعالميّة. | الكاتب: |
مجموعة قصصيّة. | نوع العمل: |
العربيّة الفصحى. | لغة العمل: |
تأثّر المُخرج: أمجد أبو العلا بقصّة: (النوم عند قدمي الجبل)، وأخرجها في فيلم: (ستموت في العشرين) وهو عمل روائي طويل- إنتاج: 2019م، حاز على عدة جوائز عالمية منها: جائزة مهرجان الجونة السينمائي. | معالجات فيلمية: |
*غفران قسّام
باحثة مرشّحة للحصول على الدكتوراة في النقد والأدب
قسم اللغة العربية وآدابها
جامعة الملك عبد العزيز- جدة
صدر لها كتاب: الرواية النسائية في السعودية: الهجرة وتحولات الرؤى (2001-2010)، ومقالات مطبوعة.
Commentaires