top of page
سياق

قراءة نقدية في الإبداع: نومة كتابة




عزت القمحاوي

ـ لماذا تعاقب هذا المسكين، إنه لم يفعل شيئًا؟

ـ أعرف، ولكن مضى وقت طويل دون أن نعاقب أحدًا.


قد لا يعني هذا الحوار شيئًا لأحد غيري، لكنه يعني لي الكثير، لأنه كل ما تبقى من نومة كتابة طويلة، أعقبها كفاح مجيد للحفاظ على عمارة سردية، كنت أحسها فاتنة في وقت الكتابة، لكنها تبخرت ولم يبق منها سوى سطري الحوار هذين.

أكتب دائمًا في الأحلام، ربما أكثر مما أكتب في الواقع. لا أستطيع التركيز في جلسة الكتابة أثناء الصحو أكثر من أربع ساعات، لكنني لا أستطيع قياس زمن «نومة الكتابة» لكنني أشعر بأنها تمتد طوال الليل. تزورني أحلام الكتابة بين وقت وآخر عندما أكون منصرفًا عن الكتابة في الواقع، كأنما لتعيدني إلى مساري، لكن في مواسم الكتابة تنتظم كتابة الأحلام «نومة» بعد كل جلسة.

ربما كان هوس الكتابة في الحلم محاولة من اللاوعي لهدهدتي ومنحي بعض الفرح، بعض التشجيع. لا تكون لديَّ أية ثقة فيما أكتب خلال الصحو، ويقتلني الشك كلما توغلت أكثر داخل نصي، ثم أنام فأتمتع بالثقة الكاملة والفرح الكامل. كل نص كتبته في الأحلام كنت مقتنعًا لحظة كتابته بأنه نص عمري، ويحملني موج الفرح إلى شاطئ اليقظة. في اللحظات الأولى من تسلل الوعي أدرك أنني كنت أحلم، وأبدأ في مراجعة الحلم مرة بعد مرة لأتذكره وأدونه عندما أنهض. في المرة الأولى أكون مفعمًا بالذكرى، واثقًا من أنني سأتذكر كل هذا البناء، وسأكتبه فور نهوضي. ومراجعة بعد أخرى يبدأ الشك يتسلل إلى البنيان، ينهار جدار هنا، يطقطق سقف هناك، وتنهال أتربة من مكان ثالث، ثم يكتمل وعيي على تبدد البناء بالكامل. وتنقلب غبطة النوم إلى إحباط شديد. أسكن منهكًا، بفراغ الفقد إذ أدرك أنها محض خذلان جديد.


وأحيانًا ما أتمكن من إنقاذ جملة حوار أو جملة وصف لمكان أو شخص، فأتذكَّر صورة سنتياغو بطل هيمنجواي العجوز مستلقيًا على الشاطئ تحت شمس الصباح، بينما يتلاعب الموج بمركبه، وبالعمود الفقري العملاق الذي تبقى من صيد عمره. بعد ليلة من الكفاح الرهيب، كليالي كفاحي، لم يصل سنتياغو إلى الشاطئ بشيء من لحم السمكة التي صارعها وصارعته طوال الليل في عرض البحر، لكن «سلسلة الشوك» العملاقة منحته الدليل على أنه ليس ذلك الصياد الهرم عاثر الحظ والقوة الذي يظنه الصيادون الشباب.


قبل أن أنهض من فراشي دونت «سلسلة الشوك» التي خرجت بها من حلمي الأخير على مفكرة هاتفي:

ـ لماذا تعاقب هذا المسكين، إنه لم يفعل شيئًا؟

ـ أعرف، ولكن مضى وقت طويل دون أن نعاقب أحدًا.


***


قضيت النهار أتحاشى الانخراط في أعمال اليوم، في محاولة يائسة لتذكر شيء آخر. تذكَّرت أنني كنت أعي أثناء نومة الكتابة أن ذلك الحوار دار بين شخصيتين من شخصيات الرواية التي أكتبها حاليًّا. لكن، من يكونان من بين الشخصيات العديدة؟ ومن المسكين الذي وقع عليه العقاب؟ تذكرت أنني كنت أعي أن الشخصية كانت حمارًا، وأن سطر الحوار الأول كان هكذا: «لماذا تعاقب هذا الحمار المسكين، إنه لم يفعل شيئًا؟». وتذكرت، لا أعرف كيف، أن هذا الحوار نبهني في الحلم بأن روايتي التي تدور في مزرعة، ليس بها حمار. وكنت سعيدًا بهذا الإدراك النقدي، وقررت أنني لابد أن أخلق مكانًا لحمار في النص.

يعذبني الضياع المتوالي لنصوص النوم، ولم تُعنّي قراءة فرويد أو قراءة يونغ أو وساطة إريك فروم المتأخرة بينهما على الوقوف على أسرار الأحلام وبالتالي كتابة الأحلام. وسواءً كنا نحلم لأن أرواحنا تغادر أجسادنا أثناء النوم أو لأننا نتحرر من كوابح الوعي؛ فالنتيجة واحدة: أن ما يجري في الأحلام يشبه ما يجري في حياتنا ولا يشبهه في الوقت ذاته. وهذه صفة مشتركة بين منتج الكتابة ومنتج الحلم.

وسأحاول هنا التفكير بصوت عال حول حلم الكتابة بالذات. أعتقد أننا لا نتحرر من سلطة وعينا فحسب، بل من سلطة القراء كذلك. وأتصور أن هذا هو مصدر الروعة والأسف.


بفضل الفرار من سجن الوعي تتعالى الأحلام على قيود المكان والزمان، فنجمع بين شخصيات من أزمنة مختلفة، أو نحملهم إلى مكان لم يكونوا بالغيه في الواقع أبدًا، لهذا تكون عمارة السرد في الأحلام مدهشة حيث المخيلة حرة بالمطلق في «نومات الكتابة» لكن السوء يأتي من التعالي على سلطة القارئ. غياب المتلقي المختلف في الحلم يجعلنا نحتاج إلى أقل القليل من اللغة؛ فنحن نرى مكانًا نعرف أنه ذلك المكان الذي زرناه من قبل ولا نسميه، نرى وجهًا لم نره من قبل لكننا نقرر في الحلم أنه ذلك الصديق أو القريب أو الزميل، نتلاصق مع كتف أو نمسك بيد ولا نرى بقية الجسد، لكننا نعرف لمن الكتف ولمن اليد. ربما، أقول ربما، هذه الاختصارات هي ما تجعل سرد الحلم رمزيًّا أو افتراضيًّا، وربما لهذا يتبدد عندما يرى النور.


هل لي أن أتأمل سطري الحوار، اللذين بدأت بهما هذه الكتابة، بحثًا عن شيء من عبرة تنبع منهما بالذات؟ لنتأمل منطق الرد: «نعاقب بريئًا لمجرد أننا نشتاق إلى معاقبة أحدهم»!

هل هذا بعيد عن منطق العدالة في الواقع؟ هناك الكثير من الأسباب التي تجعل من العدالة مفهومًا نسبيًّا، حزينًا وفكاهيًّا في الآن ذاته. هناك التحيز البشري، الخطأ، الحظ السيئ، الضجر والرغبة في إغلاق ملف، وفي حالة هذا الحوار، تريد سلطة العدالة أن تعلن وجودها بعد أن مرَّ وقت طويل دون أن تعاقب أحدًا. آلة العقاب بحاجة للعمل، ولنسأل كافكا عن ذلك.

جمال منصور بطل روايتي «يكفي أننا معًا» محام عاشق الأدب، لا يخسر قضية أبدًا لأنه يدرك الطبيعة الخيالية للعدالة. وبرأيه أنها خيالية لأنها معلقة بقوة السرد. يفوز من يستطيع أن يحكي حكايته جيدًا.


***


ـ لماذا تعاقب هذا الحمار المسكين، إنه لم يفعل شيئًا؟

ـ أعرف، ولكن مضى وقت طويل دون أن نعاقب أحدًا.


قد لا يرى أحد أي شيء مميز في هذا الحوار، لكنني لا أخرج كل ليلة بسطرين مثلهما؛ لذا قررت أن أقبل هبة الحلم. وسأجد في روايتي الجديدة مكانًا لهذين السطرين اللذين قد ينتبه لهما قارئ وقد لا ينتبه، لكن وجودهما سيكون مصدر غبطة لي، كغبطة معماري لعوب يخفي تميمة حب تحت أساس محكمة أو سجن.

ليست هذه الهبة الأهم على أية حال، ولا أظن أنني سأتلقى هبة من كتابة الأحلام تعادل هبة نومة كتابة شتوية عام ٢٠٠٦، فكل ما عشته بعد ذلك التاريخ هو هبة ذلك الحلم. كنت أكتب رواية «الحارس» في ذلك الوقت، وكانت مسؤولياتي الصحفية تلتهم وقتي بجشع، لكن النص كان يضغط بقوة، وكان لابد أن أوفر وقتًا للكتابة. عبر مفاوضة مع ذلك العمل تمكنت من جعل عطلة نهاية الأسبوع أطول قليلًا. أعتزل خلالها في بيت بمزرعة، على مشارف مدينة الإسماعيلية. أصل إلى المزرعة مع غروب شمس يوم الخميس وأنصرف منها صباح الأحد من كل أسبوع.

خلال تلك العزلات الأسبوعية، كنت أكتب بجشع، ردًا على جشع الصحيفة، أو ربما لأنني كنت مستريحًا مع نصي بدرجة كبيرة. وكنت لا أغلق حاسوبي وأستلقي إلا لتهاجمني الكتابة مجددًا في الحلم. وعندما أقوم لا أجد شيئًا من سرد النوم، لكنني أجد وهجه، وطاقة الفنتازيا الحلمية؛ فتمنحني القوة لتصديق نفسي عندما أكتب في الواقع، وهذه ليست بالهبة البسيطة.

وذات ليلة تمادى الحلم في خياليته؛ فرأيت نفسي غصنًا في طول وثخانة ذراع، وكنت أحترق على سطح جمر متوهج في المجمرة، وكنت أرى فقاعات الماء البنية والدخان تخرج من طرفي الغصن المحترق، الذي هو أنا. كنت أشعر بثقل أطرافي، فأقول إن الاحتراق يعمل في جسدي من الطرفين، لكن القلب لم يزل أخضرَ، وابتهجت لهذا جدًا، وأخذت أراجع حلمي لأكتبه، مبتهجًا بهذه الصورة التي أراها فاتنة.

صورة الغصن كانت نسخًا آليًّا من جلساتي أمام المجمرة وقت الاستراحة مع شاي أو شواء أعده على جمر الأغصان التي نقطِّع ونخزِّن منها الثخانات المناسبة للنار عند التقليم السنوي لأشجار المزرعة. لم تزل مراقبة عصارة الأخشاب غير مكتملة الجفاف تسليني، وأتابع فقاقيعها وأشم رائحة كرملة السكر المطرود من أغصان أشجار الفواكه السكرية. ورغم أن الحلم لم يفعل سوى نسخ ما أراه في الواقع إلا أن صورتي كغصن كانت مبهرة ككل صور الأحلام وأخذت أراجعها حتى لا أنساها. لا أعرف كم قضيت في استذكار هذه الصورة، ولا ما حدث بعد ذلك عندما وجدتني مستلقيًا على عتبة البيت استلقاءة سنتياغو على الشاطئ. كانت أسناني تصطك وجسدي يرتعش تحت برد فجر قارس. بعد لحظات أدركت أنني مبلل، ولم تكن لدي القوة الكافية ولا الوعي الكافي لأنهض وأدخل إلى البيت كي أتدفأ أو أطلب المساعدة عبر الهاتف. تناوبت الإغماءات والصحوات حتى طلوع الشمس، وتمكَّنت عند ذلك من دخول البيت وطلب المساعدة.

بعد أن تلقيت المحاليل ودفء الأغطية نمت نومًا كالموت حتى آخر النهار. أُوقظت خلاله بعد الظهيرة لآكل شيئًا بالإجبار، وأسقط في النوم مباشرة. عندما استيقظت كان النسيان أكبر أحزاني. لكن الذكريات بدأت تدب مثل نتح ماء يتجمع قطرة قطرة: أدركت أنني عندما رأيتني غصنًا يحترق، تزحزحت على السرير لأغادر النار، وأخذت أتساند على الجدار لأفتح مكيف الهواء، وقبل أن تبلغه يدي كنت أسقط تحته. تذكرت أنني كنت أراقب كفاحي السيزيفي وأخذت أتذكره كملحمة استمرت ساعات طوالًا، لكنني لم أتذكر كيف انصرفت عن هذا الكفاح وزحفت إلى أن صرت في الهواء خارج البيت.

كان الحلم يترجم حالة اختناقي بأول أكسيد الكربون، ولم يكن البلل في طرفي الغصن سوى بلل القيء والبول، وكنت سعيدًا جدًا لا لجمال الكتابة في الحلم بل غبطة الموت بالغاز!

ما حدث أنني كنت أشعل المجمرة بالفضاء أمام البيت حيث أعيش على الشواء أيام العزلة، وكنت قد دفنت جمر ذلك اليوم تحت الرماد، وعندما شعرت ببرودة الليلة أدخلت المجمرة لتغيير برودة البيت قليلًا. لم أكن أجهل مخاطر ذلك، لكنني كنت على ثقة بأن بقايا نار مضت على إشعالها أربع ساعات لن تكون خطرة في بيت له ثلاثة أبواب بخلاف الشبابيك!

فيما بعد، قال لي الطبيب الذي صار صديقًا: «فقدان السيطرة على الأعصاب، هي اللحظة التي التي تسبق الموت مباشرة. لكن تمسكك بتذكر الحلم لتكتبه جعل وعيك يصمد اللحظات إضافية كانت كافية لإنقاذك».

لكنني لا أعرف حتى الآن كيف زحفت وتمكنت من فتح باب الغرفة وباب البيت. آخر ما وعيته كان ملحمة السقوط تحت زر المكيف الحائطي المولود قبل نعمة التحكم في تلك الأجهزة عن بعد!

عندما يمر وقت طويل دون أن تكافئني الكتابة بشيء من الرضا، يحلو لي أن أتذكر «نومة الكتابة» تحت الدخان لأعترف بديني الكبير لها، فكل لحظة عشتها بعد ذلك الفجر الشتائي الغريب هي هبة الكتابة في الحلم، وليس هناك أعظم من عمل يهبنا الحياة.

أحدث منشورات

مقدّمة العدد ١٦: أيها الحالمون  

(يا صباح الخير، يا صباح الورد، يا صباح البطيخ)! كم مرة ترسل عزيزي القارئ تغريدة أو رسالة صباحية بعد أن تستيقظ من نومك؟ كم مرة شعرت بأنك...

Comments


bottom of page