top of page

مقال | فن المحاورة: فن سرعة البديهة العتيد

سياق

أ. د. محمد البركاتي

أستاذ اللغويات المقارنة والترجمة بجامعة الملك عبدالعزيز، وعضو مؤسس لجمعية الترجمة السعودية.




يُعدّ فنّ المحاورة من الفنون الجزيرية الفريدة التي تضرب بأطنابها في عمق التاريخ، حيث يربط بعض الباحثين أصولها بأحاجي وألغاز  شاعرَي المعلقات امرئ القيس وعُبيد بن الأبرص عندما حاوره الأخير قائلًا:

ما السود والبيض والأسماءُ واحدةً  لا يستطيع لهن الناس تمساسا 

فردّ امرؤ القيس: 

تلك السحابُ إذا الرحمن أرسلَها           روى بها من محول الأرض أيباسا 

بينما يجد فيها بعض المتلقين شيئًا من نقائض جرير والفرزدق والأخطل التي ينتقض فيها كل منهما معاني الشاعر الآخر، ويقلب فخره وامتداحه لنفسه إلى هجاء لاذع؛ بيد أن النقائض تأتي في قصائد كاملة بينما تأتي أبيات المحاورة مرتجلة في شكل بيتين من كل منهما.

وبدايةً، يمكن تعريف "فن المحاورة" بأنه فنّ شعريّ رجاليّ -يختص به الشعراءُ دون الشاعرات- شفاهيّ ارتجاليّ جماهيريّ يؤدّى في محافل ومناسبات الفرح، يكون إما ثنائيًا بين شاعرين أو رباعيًّا بين فريقين، ويتكون كل فريق من شاعرين بما يسمى "طاروق رباعي" يؤثّر في تشكيل هذا الفريق عوامل مختلفة، مثل: القرابة القبلية أو الأحلاف التاريخية بين قبيلتي الشاعرين.

ويمكن الزعم الآن أنّ هذا الفنّ نشأ وترعرع في إقليم الحجاز وخرج شرقًا غير بعيد إلى حواف إقليم نجد؛ فأبدع فيه عدد كبير من شعراء بادية نجد وعاليتها، ثم اتجه قليلًا إلى شمال المملكة العربية السعودية؛ حيث ظهر عدد قليل من شعراء شمال المملكة ممن أتقن هذا الفن، وعدد لا يتخطى عدد أصابع اليد الواحدة من الإمارات وقطر والكويت ممن خاض "ملعبات المحاورة" أيضًا وأبلى فيها بلاءً حسنًا.

ولهذا الفن أربعة عناصر رئيسة: الشاعر، والنص، والصفوف، والجمهور. ويمكن تقسيم خصائصها إلى داخلية وخارجية؛ إذ تختص الأولى بشعرية الأبيات وصورها الحجاجيّة والأوزان الطربية والمواويل التي تكون غالبًا في أربعة أشطار، ثلاثة منها بقافية واحدة والشطر الرابع "قفلة" لها قافية أخرى يلتزم بشطر القفلة باقي الشعراء في كامل "الطاروق" أي البناء الوزني لأبيات المحاورة، ومن أشهر القفلات (هذا الصحيح وقولوا اللي تقولون -الملعبة نارها حية يا أهل المواويل غنّوها- يقولون العرب ما للرعية غير راعيها). يحكى أن ظهور المواويل حديث في المحاورة، لكنها أصبحت مُلَحًا للمحاورة يبدأ بها الشاعر دوره وكثيرَا ما يتفاعل الجمهور مع الموّال طالبين إعادته من الشاعر بقولهم (عيد .. عيد).

تُعنى الخصائص الخارجية بالصفوف وحماس "لعبهم" أي رقصهم وتصفيقهم وأهازيج إعجابهم بالمحاورة وبمسرحَة الشاعر في أدائه الأبيات أمام الجمهور وجمال صوته وجهوريته، أمّا بناء المحاورة من جهة أبياتها؛ فتسمى الأبيات الأولى من المحاورة ببيتي "البَدْع"؛ حيث يبدأ الشاعر الأول "الطاروق" متوخيًا فيهما "الفتل" أي المعنى المحبوك الذي يجعل الشاعر المقابل أمام مسؤولية "النقض" بدمغ حجة الفتل، أو على الأقل بردٍّ يقطع فيه استمرار النقاش في الموضوع الذي فُتل فيه وهو ما يسمى "بالاحتواء"، فالنقض والفتل هما عماد حجاج المحاورة.

تبدأ المحاورة "بالمُلالاة" -بضم الميم- التي يلقّن فيها الشاعر الصفوف اللحن، وتبدأ ببيتي بدع يكون عادة فيها استهلال ترحيبي بالحضور في المحفل باسم صاحب الحفل، مادحين الأخير وقبيلته بصفاتهم الحميدة كالكرم والشجاعة أو الحسب أو النسب؛ كقول حامد القارحي في موال استهلالي:

مرحبا عند الأشراف بيت الشرف..عزوةٍ تنتسب في أبي طالب علي 

الولد ياصل (يصل) الجد في مشجّرة .. الولد ياصل الجد في مشجّرة

يعمد الشعراء للابتداء بهدوء حذر يتدرج نحو الاحتدام كقول معتق العياضي:

سلام والعقل ميزان الخطأ والصواب 

والناس في كل حال تحكّم عقولها

وش مزعلك يالمطيري عقب عارضك شاب

الكلمة اللي تقرقع في النحر قولها

يرد الشاعر المقابل السلام والترحيب ويبدأ كل منهما في بناء المعنى آملًا أن يجد كل محاور منهما ثغرة في أبيات خصمه، أو يستغل نقطة ضعف فيه مستحضرًا صفة أو معلومة تخصّ الآخر كما في رد تركي الميزاني على البيتين أعلاه:

يا مرحبا يالمسلّم وأنت توّك شباب 

سنين عمرك يادوبه بان مفعولها

يزعلني اللي ما يحسب للسوالف حساب

أنا قريت الرسالة وأنت مرسولها 

وهو هنا بدأ الفتل مباشرة بأنه يعلم أن معتق يتحدث باسم شخص آخر ولا يمثل نفسه فقط.

ومن جميل ما قيل قول الشاعر محمد العازمي للشاب الشاعر باسل الشريف محذرًا إياه من اللعب مع الشاعر منيف المنقرة الذي يكبره سنّا بأسلوب لا يخلو من "الخبث الجميل":

ودّي أقدّم نصيحة ثمينة للشريف

أخذ حذرك لا تخاوي منيف المنقرة

خابرك باسل وباسل ما يصلَح مع منيف

لو تخاووا.. يمكن يصير بعض الشوشرة 

في أبيات العازمي إسقاط على أنّ الاسمين ينتمي كل منهما لجيل عُمْري وبيئة وأسلوب حياة تختلف عن الآخر فاسم أحدهما بدوي والآخر يرتبط اسمه بالبيئة الحضرية؛

يرد عليه الشريف:

أنت خاويته قبل في الشمال وفي عفيف

ويش سوّى لك على شان تكره منظره؟

أبك أنا أخاوي النشامى على السِّلم النظيف 

لو بخاويك أمشيك فوق المسطرة 

وهنا نقض الأخير فتل الأول بذكاء وأعاد الكُرة في ملعبه بما لا يخلو مما يسمى "قصف الجبهات" الذي قد يستحضر فيه الشعراء وقائع التاريخ، وتعمّد إحراج الخصم بأن يدمغ الشاعرُ "قبيلَه" الآخرَ بنقضٍ موجعٍ يثير إعجاب الصفوف والجمهور.

ومن جميل القصف رد الشاعر إبراهيم الشيخي على الشاعر وصل العطياني حين قال الأخير:

إذا أقنعت الحضر جوك البدو صيادة الجربوع 

ولا ترضى علاك (عليك) البدو حتى لو تحجّجها 

فيرد عليه الشاعر إبراهيم الشيخي:

رجال البدو عن صيد الضعيفة قدرهم مرفوع

وإلا يالشاعر المشهور ربعك ليش تحرِجها؟

استغل الشيخي هنا بداوة الأول وأنه لا يجدر بالعطيّاني ذم البداوة التي هو وقبيلته من أهلها وكأنما يقول له: (رمتني بدائها وانسلّت).

وقد يحدث أن يوغل الشاعر في الترميز؛ فيأتي ببيت فيه معنًى خبيء متوخيًا تورية المعنى في ثنايا أصوات الأبيات فيصعب على "قبيله" إدراك المعنى فلا يجري حينها "استلام المعنى" من الشاعر المقابل ويمر دون نقض فيسمى حينها "تمريرة"، وهو وإن كان مصطلحًا حديثًا يظهر أنه مستعار من كرة القدم، ويقصد به البيت الذي ظاهره الحسن وهو يحمل معنى دون ذلك قد لا يدركه الشاعر الآخر إلا أن من كبار من تفنن في التمريرات الشاعر عوض الله أبو مشعاب السلمي فهو بشهادة بعض المخضرمين في الساحة عراب التمريرات التي تعلّمها بعده الجيل الحالي من الشعراء وأضحى كل منهم يتفنن بأسلوبه فيها.

نذكر تمريرة من صنع الشاعر بن شايق رحمه الله حين قال:

حيا الله الشيخي اللّي له ثلاث سنين مفقود .. والعين والدال حرفينٍ غلطنا في حداها

وهي تمريرة اعترف الشيخي في مقابلة معه بأنه لم يعرف كيف يرد عليها حينها، مضيفًا أن الموال في المحاورة أقرب للفن الغنائي منه إلى الشعر، وهو هنا يشير إلى الجانب الأدائي الطربي في المحاورة.

نذكر أيضًا تمريرة للشاعر نامي السلمي في محاورة الشاعر حبيّب العازمي:

سلامي سلامٍ فيه طبٍ للأجراح (للجروح)

سلامٍ على "صيته" تهيض القريحة

هنا استغل الشاعر جناس كلمة "صيته" في البيت بمعنى صيت السلام الذي ابتدأ به، وجناس الكلمة مع اسم (صيتة) بصفتها اسم علم مؤنث، وهنا وجد البعض أن الشاعر حبيّب العازمي رغم خبرته ومكنته الشعرية إلا أنه لم يستلم معنى ناميًا حين ردّ:

هلا يا مرحبا يا ضيف والبال مرتاح

وإلا واهنيّ العالم المستريحة

على الجانب الآخر، يرى بعض المهتمّين بهذا الفن أن حبيّب أجاد الردّ، ففارق السن والخبرة بينه وبين نامي جعل حبيّب يردّ بما يفيد أنه يريد الترفع عن الخوض في هذا المسلك واصفًا نفسَه بالمستريح، وهاتين القراءتين للمعنى عيّنة من الجدل الذي يثار عقب الطواريق النارية والحماسية. 

تحتوي الأبيات عادةً "معنى جزلًا" قلّما يكون "مكشوفًا" فيفهم بسهولة من حاضري "الملعبة". ويكثر أن يكون "مُرمّزًا" و"مدفون المعنى" يترك مفتوحًا للتأويلات الفردية، أو فيه لعب بالألفاظ يحتمل أكثر من معنى أحدها ذم يشبه المدح كقول بجاد السناني:

أنت رقمك من قديمْ مسجّلَه بالنوتة

سيرتِك عطرة مثل ريح النفل والجوري

وهنا (بالنوتة) قد تعني أنه سجل اسمه في مفكرة تسجيل أرقام الهواتف والأسماء، وقد تعني (بنوتة) وهي تصغير بنت أي سجلت اسمك عندي بأنك فتاة صغيرة، وهو ما استلمه سلطان المنصوري فرد قائلًا:

أحسبك مثل الهلال الكأس كيف يفوته

وأنت مثل (الوٍحدَة) اللي ما تجيب الدوري

وهنا تعمد الأخير التمويه بموضوع رياضي يذكر فيه ناديي الهلال والوحدة الرياضيين ليصل لمفردة (الوِحدة) التي قد تعني النادي الرياضي، وقد تكون بمعنى أنثى واحدة -بلهجة أهل الطايف التي ينطقونها بكسر الواو- وٍحدة، وهنا استغل كلاهما الجناس التام في تمرير المعنى بذكاء.

يحدث أن يكون الشعراء ذوي راحلة صوتية تطرب الآذان كالشاعر تركي الميزاني والشاعر محمد السناني؛ فيبدأ بدعه بموال ذي لحنٍ طربي كلحن أغنية (يا طارشي) للمطرب الإماراتي عيضة المنهالي، أو لحن (أنا باتبع قلبي وبس ما علي في الناس) للمطرب الكويتي عبدالله الرويشد، أو غيرها من الألحان الطربية مما يزيد فرصة أن يكون "طاروقًا ناريًا" "يطرق" فيه الشاعر لحنًا يبهج الأسماع. وقد يأتي الشاعر بموّال تعجيزي يستعرض فيه مهاراته الشعرية وتحديه لخصمه، كقول لمنيف المنقرة في موّالٍ طويل حاول فيه تعجيز سفر الدغيلبي أذكر منه هذين المقتطفين:

برأسي يغني ثمانين جنّي وجنّي حدني على الدرب الأقشر

لهنّ نقع آثار ومسحنا الآثار ويطاردني بثار وهذا الموت الأحمر

فيرد عليه الدغيلبي:

جنونك برأسك لو الوقت حاسك، وأنا أعرف مقاسك, من الشبر وأقصر

مــدامـك تـحـدّى، تـراك الـمبدّأ، ما دونك مـصـدّا يا أبو عين الأعور

تستمر المحاورة حتى "يشيب القاف" أي ينفد مخزون القوافي من الشعراء أو يصل المعنى لنهايته ولا يعد هناك ما يمكن ذكره، وقد يُنهى الطاروق مبكّرًا بسبب فوضى أثارها فجور أحد الشعراء الخصومة وتعمّد إسقاط خصمه بأبيات فيها "نزول في المعنى" بما يمكن تأويله بمعنى لا يليق، فيتسبب "النزول في المعنى" في اشتعال "الملعبة"؛ فيجعلها "تقبِس"، فيحتدم وطيس النزال الشعري حينها وسط صيحات "الصفوف" الذين "يشيلون" الأبيات مرددين وفق اللحن المتفق عليه بملالاة تعكس فهمًا عروضيا فطريّا، وبتصفيق محسوب في اللحن يحافظ على الإيقاع، أو وسط هتافات الجمهور وتعليقاتهم الفردية، الذين يتفاعلون مع ما يمسّ تكوينهم الاجتماعي بالأهازيج و"التوليشات" -الصيحات والهتافات التي تؤكّد فهمهم للمعنى وتفاعلهم معه- وأستحضر هنا ملعبة أثارت تفاعل جمهور من فريقه وفريق قبيله بسبب قول الشاعر سويعد الرزمي في مواله:

أنا بأنصحك وأوجّهك والله يعينك

وإذا قلت لي لا لا .. فلي ديني ولك دينك

تبي حرب تاقف (تقف) معك؟ ارفع كراعينك

ورفع الكراعين فيه إيحاء وكناية عن معنى "غير لائق" وهو معنى مكشوف استلمه الشاعر يوسف المحمدي ورد قائلًا:

أنا ما أعشق الهزلة ولا الكلمة الودْرة

وسويعد تبناها وتوّه هبد (ضرب) صدره

نظر للكراع وعلّم الناس في قدره 

وهنا يترفّع المحمدي عن النزول في براثن معنى أسوأ ولم يزد عن قوله سوى أنّ ذِكْر الشاعر الأول للكراعين -أي السيقان- لا يدل إلا على أنّ قدره لا يتجاوز مستوى الكراعين. 

وأذكر في هذا الباب محاورة بين الشاعر محمد بن مشيط المرّي والشاعر عبدالله الميزاني الملقب بسوار الذهب تلاعب فيها الأخير بتراكيب الألفاظ في الموّال قائلًا:

أنت يا ابن مشيط عرضك ضرّ طولك (ضرّطوا لك)

وإن بغيت المعرفة ماني بحولك

وأنت يا الطرف الحوا ما حال حولك

ما يطير الطير مكسور الجناحي

فيرد عليه بن مشيط محتويًا المعنى، مترفعًا عن النزول فيه:

لحيتي تكرم عن الهرج المغوّى (من الغواية)

ويكرمون الحاضرين عيال حوّا

وأنت لا تقعد على ضيفك تلوّى

ما يطير الطير مكسور الجناحي

تدب الفوضى أحيانًا في الملعبة وقد تصل إلى التشابك بالأيدي أو التلاسن، وقد يعبر الشاعر عن امتعاضه وغضبه بما يسمى بـ"فصلات الشاعر" على الصف فينهرُهم بدل أن يطلب منهم التوقف بالعبارة المستخدمة عادة "إيه خلّوها" التي تعمل عمل اللون البرتقالي في إشارة المرور، وتجعل الصفوف تتوقف عن اللعب منتظرة أبياته التالية. ويحدث أيضًا أن يتدخل الجمهور أو شاعر محايد "لتغيير الطاروق" إنهاءً للمشكلة واحتواءً للموقف، ومما يذكر في هذا الباب ملعبة شارك فيها الشاعر سعيد بن رْحَمة المرّي والشاعر سفر الدغيلبي حدث فيها شيء من اللغط فتدخّل الشاعر بخيت السناني -رحمه الله- لتغيير الطاروق قائلًا في الموّال:

قالوا الناس غيّر ..قلت مجبور أغيّر 

‏شبت النار لين الربع كلن تغيّر

‏والعرب غافلة وإبليس ملعون خيّر

‏صفقوا يا صفوف وياجماهير الجزيرة 

إنّ جماليات هذا الفن لا تنقطع؛ حيث يوظف الشعراء في هذا الفن التاريخ واللغة والبلاغة والحجاج والصوت وإيقاعات التصفيق الطبيعية فهو نبض للشارع، ويعكس موضوعات المجتمع وهمومه وعاداته وقيمه. ورغم تنوع موضوعاته، وتعمّد بعض الشعراء لطرق مواضيع فيها إسقاطات على موضوعات حساسة؛ إلا أنه يحمَد لهم ندرة أن تُذكَر فيه المرأة بسوء؛ لعلو قيمة صيانة المرأة ورفعة قيمتها الاجتماعية عند البدو، بيد أنّ في المحاورة مساحة شاسعة للتعبير بعيدًا عن (تابوهات) المجتمع؛ فالشعراء يتفاعلون مع القضايا المحيطة بهم في قالب رمزي ساخر، وأحيانًا لا يكاد يدرك المعنى سوى عدد قليل من الحضور، لذا فإن كثيرًا من المحاورات تُركت محلِّقةً في فضاء التأويل دون أن تُسجن في معنى محدد، وكأنّ لسان حال شعرائها هو لسان حال المتنبي حين قال:

 أنام ملء جفوني عن شواردها 

ويسهر القوم جراها ويختصم

أذكر هنا بيتين للشاعر علي الهجلة يقول فيهما للشاعر حمود الحربي:

بعد غيبة طويلة لقينا حمود.. ما درينا به إلا يطقّ بعصاه (طارقًا الباب)

يا هلا مرحبا بالرفيق القديم جعل عنده علومٍ يجينا بها

قالوا إنك تجاوزت كل الحدود.. تمسك العود الأخضر وتسلِب لحاه

وأنت لا أنته بمرغم ولا أنت محدود .. مثل هذي العمايل وش أسبابها

فهم بعض المؤولين أنّ الهجلة يتحدث عن قضية فارق السن الذي قد يكون بين الأزواج، وكأنما كان يلوم حمود بأنه تزوج بأنثى تصغره سنًّا مُكَنّيًا عنها بـ(العود الأخضر).

فيرد الحربي ذامًّا خصمه بما يشبه المدح متهكمًا عليه بوصفه الاستقامة ويقول له كيف تبهتني بهذا الاتهام فأنا لا ينقصني شيء من مسوغات الزواج هذا، مرمّزًا لكمال أوصافه بصفة الغنى:

طول عمري وأنا ثابتٍ في الوجود.. من بغى حمود في واجباته لقاه

البقى فيك يالصاحب المستقيم وش تبي من علومٍ لك أبدأ بها

يا المطيري على الظلم منت محدود ..تدخل الفقر في وسط بيت الغناة

 طيعني خل مشيك بدربٍ سليم مثلك الزايدة كيف يرضى بها !!

وختامًا، فإنّ هذا الفن فيه سرد حقيقي لقيم المجتمع البدوي في الجزيرة العربية، وفيه شواهد ثمينة لتأريخ وتطوّر المفردات في لهجات البادية السعودية فمن يرصد مفردات المحاورة خلال القرن الماضي للشعراء، مثل: صيّاف الحربي، وجار الله السواط، وعبدالله المسعودي، ومستور العصيمي، ومحمد الجبرتي، ومطلق الثبيتي، وعلي الهجلة، وبكر بازعزوع الحضرمي، وأحمد الشايع، وخلف بن هذال، ورشيد الزلامي، وفيصل الرياحي، ومن عاصرهم من الشعراء ممن لا يتسع المجال لذكرهم، يجد أن قاموس المفردات الذي ينهلون منه ليس هو ذاته الذي يستخدمه شعراء المحاورة المعاصرين، ويجد فيه استحضارًا لأحداث تاريخية قديمة فالمحاورة سجل لذاكرة البادية وأحداثها. 

لا تقف أهمية هذا الفن عند هذا السرد فقط؛ بل إنّ له بُعدًا اقتصاديًّا واعدًا في مجال الترفيه الشعبي؛ فالشعراء لهم جمهور ومعجبون ويتقاضون والصفوف مالًا نظير مشاركتهم في الملعبات، وهو عمل تجاري لا يخلو من التنظيم، فهناك مكاتب تنسيق لهذه الحفلات تقوم بما هو أشبه بتنظيم الفعاليات، فتجمع بين رغبات صاحب الحفل وبين الشعراء وتجمع الأضداد من الشعراء في حفل واحد لخلق مزيد من الإثارة لذا فإن نظامه البيئي (الإيكوسستم) متكامل الجوانب مما يؤهله لأن يصدّر للعالم العربي؛ ففيه تشابه مع نماذج فنية شعرية أدائية مماثلة كالزجل والموشحات الشامية، وفيه من المواويل العراقية أداؤها الطربي، لذا فهو يستفيد من جماليات الشعر والأداء والمسرح والغناء، ويمكن أن يسجّل في اليونسكو على غرار الفنون الشعبية كالمزمار الذي سجّل مؤخرًا في قائمة التراث الثقافي غير المادي في منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة.



1 Comment


الشريف محمد الحارثي
الشريف محمد الحارثي
Dec 05, 2024

الكاتب: الدكتور محمد بن حسين الحارثي الشريف

أحييك سعادة الأستاذ الدكتور محمد البركاتي، ولا أخفيك سرا، إعجابي بتنوع اهتماماتك وإبداعاتك، فما سجلته في مقالتك جمع بين التاريخ والأدب والنقد، فبالفعل شعر المحاورة هو أحد الفنون الأدبية الشعرية التي ظهرت في الحجاز وانتشرت لاحقاً في مناطق أخرى.

واسمح لي أن أضيف إلى مقالتكم محاورة شعرية تاريخية رائعة وبديعة، بين الشاعر الشهير (الشريف بركات أبو مالك)، صاحب القصيدة الكافية المشهورة ومطلعها:

يا لله يلي كل الامات ترجيك       ***       يا واحد ما خاب حي ترجاك

وابن عمه شاعر من الأشراف الحرث بالخرمة، خرج الشريف الحارثي متوجهاً على الخرمة ووصل إلى أرضه وقومه , فكتب إليه الشريف بركات " أبو مالك " هذه القصيدة الحائية يبين فيها أنه عز عليه فراق صاحبه مع أنه…

Like
  • Twitter
  • Linkedin
  • Facebook
  • Youtube
  • Whatsapp

 الجمعية السعودية للأدب المقارن © ٢٠٢٣

bottom of page