top of page

صدى | خدعة اللغة: لِمَ يبدو العالم متماثلًا في كل لغة؟

سياق

أ.د. زكية بنت محمد السليس العتيبي

أديبة وأكاديمية سعودية



جاء  كتاب (خدعة اللغة) بترجمة: عقيل الشمري، الذي طبعته دار تشكيل السعودية عام 2020م  في (366) صفحة، من تأليف أستاذ اللسانيات والأدب المقارن في جامعة كولومبيا جون ماكوورتر، الذي قسّمه إلى عدة فصول، بدأها بما بينته الدراسات حول نسبية اللغة، وفند الأقوال فيها، وتحدث عن استعادة عرش الثقافة وازدراء اللغة الصينية ورؤية العالم من منظور اللغة الإنجليزية واحترام الإنسانية، ثم ختم الكتاب بالمسارد.

الكتاب يعالج قضية فلسفية ومعرفية حول الاستخدامات اللغوية التي تخدم أغراضًا بتجاوز وظيفة اللغة التواصلية لتشمل التأثير النفسي والسياسي والاجتماعي.

يمس المؤلف قضية حساسة تتعلق بشكل ما بقضية المركز والهامش حين تحدث عن الدور الذي تلعبه اللغة في تشكيل أفكار الإنسان ووعيه، والطريقة التي يمكن بها التلاعب بالعقول عن طريق التراكيب اللغوية. 

يبدأ المؤلف بمناقشة فكرة نسبية اللغة بتوضيح فكرة أساسية، مفادها أن اللغة ليست مجرد وسيلة للتواصل، بل هي أداة للتفكير وفهم العالم. فهي الإطار الذي يدرك من خلاله الإنسان الواقع، ما يجعلها قادرة على أن تكون وسيلة للتأثير والتحكم من خلال خلق واقع زائف، أو إعادة تشكيل فهمنا للواقع القائم.

اللغة كما يراها المؤلف أداة سلطوية، سواء أكانت سياسية أم دينية أم إعلامية، فمن خلال التحكم في الخطاب اللغوي، يمكن للنخب فرض رؤاها وتوجهاتها على المجتمعات، إذ يمكن للتراكيب اللغوية أن تحمل معاني مضللة باستخدام مصطلحات عامة وغير محددة لإقناع الناس بأفكار معينة دون منحهم فرصة للتفكير الناقد.


ناقش المؤلف الفكرة التي تقول: إن اللغة لا تصف العالم فقط، بل تسهم في تشكيله فالإنسان لا يستطيع التفكير خارج الإطار الذي تحدده لغته وهوما يعرف في علم اللغة بـ(النسبية اللغوية) التي تشير إلى أن اللغة تؤثر في الطريقة التي يفكر بها  الإنسان، فهي تدفع متحدثيها إلى التفكير بطريقة زمنية منظمة أكثر من أولئك الذين لا تحتوي لغتهم على هذه التفرقة.

يركز الكتاب بشكل كبير على العلاقة بين اللغة والأيديولوجيا فالكلمات ليست محايدة، بل تحمل في طياتها قيمًا وأيديولوجيات -على سبيل المثال- استخدام مصطلحات، مثل: "الشهداء" بدلًا من "القتلى" في سياق معين يمكن أن يعبر عن انحياز سياسي أو ديني.

يعرض الكاتب أمثلة من التاريخ والسياسة، حيث كان للتحكم في اللغة دور كبير في توجيه الرأي العام، مثل: استخدام المصطلحات الإيجابية أثناء الحروب أو الحملات الدعائية، فالإعلاميون والسياسيون يدركون أهمية اختيار الكلمات بعناية للتأثير في الجماهير، فالكلمات الإيجابية أو السلبية التي تُستخدم لوصف شخص أو حدث معين تؤثر في الطريقة التي يدرك بها الجمهور الواقع والتلاعب بالعناوين الإخبارية يمكن أن يحول قضية عادية إلى أزمة، أو يجعل أزمة ما  تبدو غير مهمة.

يرى الكاتب أن أول خطوة لفهم خدعة اللغة هي الوعي بقدرتها على التأثير والتحكم وينصح القراء بما يأتي:

1. استخدام التفكير النقدي: عن طريق تحليل الرسائل التي نتلقاها بدلًا من قبولها كما هي.

2. فهم السياق: فالكلمات قد تحمل معاني مختلفة بحسب السياق الذي تُستخدم فيه.

3. العودة إلى المصادر: للتحقق  من المعلومات والبحث عن الحقيقة بعيدًا عن التلاعب اللغوي.

4. التعمق في دراسة اللغة: لفهم القواعد والأساليب اللغوية لمساعدتنا على كشف محاولات التلاعب.


هذا إجمال لأهم النقاط التي تحدث عنها الكتاب بشكل عام، وأوجز ما تناوله المؤلف في  كل فصل:

الفصل الأول: ناقش المؤلف فيه  نتائج الدراسات التي تناولت فرضية النسبية اللغوية، المعروفة أيضًا بفرضية (سابير-وورف)، التي تُشير إلى أن اللغة التي يتحدثها الأفراد تؤثر في طريقة تفكيرهم ورؤيتهم للعالم باستعراض مجموعة من الأبحاث التي سعت إلى اختبار هذه الفرضية، مشيرًا إلى أن العديد منها لم يقدم أدلة مقنعة تدعم التأثير الحاسم للغة على الفكر، ويؤكد المؤلف على أن بعض الدراسات التي أظهرت تأثيرات لغوية في التفكير قد تكون محدودة النطاق أو تعاني من مشكلات منهجية. وبالتالي، يخلص إلى أن الأدلة المتوفرة لا تدعم بشكل قاطع فكرة أن اللغة تشكل الفكر بطريقة حتمية، بل يشير إلى أن تأثير اللغة في التفكير قد يكون أقل أهمية مما تقترحه فرضية النسبية اللغوية.

في الفصل الثاني ينفي المؤلف كون اللغة تشكل الفكر تشكيلًا مهمًا مستمرًا في معارضته للنسبية (فرضية سابير وورف) من خلال مناقشته  العلاقة بين اللغة والثقافة، مسلطًا الضوء على الفهم الخاطئ الشائع الذي يقول إن اللغة تحدد بشكل حاسم طريقة تفكير الأفراد ورؤيتهم للعالم، فتأثير الثقافة في اللغة لا يمتد إلى السمات النحوية والتراكيب التي لا يلاحظها المتحدثون الأصليون، وبالتالي فهي لا تؤدي إلى اختلافات جوهرية في التفكير بين متحدثي اللغات المختلفة.

في الفصل الثالث:  يتحدث المؤلف عن ضعف الارتباط بين بنية اللغة والشعب الذي يتكلمها وإبطاله لتوقعات البعض أن النحو المعقد يناسب الحضارات المتقدمة، بينما العكس هو الصحيح فاللغة لا تقيد التفكير بشكل حاسم فالبشر بغض النظر عن لغاتهم يشتركون في قدرات تفكير متشابهة.

في الفصل الرابع: يناقش المؤلف تأثير اللغة في الإدراك الحسي مع التركيز على الألوان والاتجاهات، باستعراض دراسات عن كيفية تسمية الألوان والاتجاهات الجغرافية (شمال، جنوب، شرق، غرب) بدلًا من الاتجاهات النسبية (يمين، يسار) في وصف المواقع فهذه الاختلافات اللغوية تعكس التباين الثقافي، لكنها ليست اختلافات حسية  جوهرية بين متحدثي اللغات المختلفة.

في الفصل الخامس: يناقش المؤلف الادعاءات القائلة إن اللغة الإنجليزية بخصائصها النحوية والمعجمية تؤثر في رؤية متحدتيها للعالم، فاللغة الإنجليزية تفتقر إلى تمييزات نحوية ومعجمية تتمتع بها لغات أخرى.

في الفصل السادس والأخير: يلخص المؤلف المشكلات المتأصلة في فرضية سابير وورف، التي تفترض أن اللغة تحدد طريقة تفكير الأفراد ورؤيتهم للعالم، فهذه الفرضية من وجهة نظره تقلل من القواسم المشتركة بين البشر، وتبالغ في زعم أن اللغة تؤثر في الفكر، فالتنوع اللغوي لا يؤدي إلى  اختلافات جوهرية في الإدراك والإنسانية.

 ثم يختم المؤلف كتابه بدعوته لاحترام الإنسانية المشتركة، والتركيز على القواسم التي تجمع بين الثقافات، بدلًا من تضخيم الفروقات اللغوية والثقافية بين الشعوب، فالإنسانية مشتركة لا يتميز بها شعب عن شعب.




أحدث منشورات

سلالم | بلاغة اللعب اللغوي

فاطمة محسن عقيبي     حين يقع في أيدينا كتاب ما، تتضمن إحدى صفحاته لعبة لغوية لغزًا كان أو أحجية، شعرًا كان أو نثرًا، فإنه لا يمكننا منع...

Comments


bottom of page