top of page

قراءة نقدية في الإبداع | لغةٌ نَلعب بها وتلعب بنا

سياق

عبد القادر وساط

كاتب ومترجم وطبيب نفسي مغربي، يكتب الشعر والقصة القصيرة، ويهتم باللغة وبألغازها.




١- بيت بلا نافذة


من الكُتُب التي أذكرها جيدًا، في بيتنا العائلي القديم، مجموعة قصصية قديمة، منزوعة الغلاف، كنت أجد متعةً كبرى في قراءتها، وأنا في الرابعة عشرة من العمر.

 كانت جميع قصص المجموعة تدور حول النوافذ.

  تحكي قصة "بيت بلا نافذة" عن كاتب مُسنّ، تعطلَت آلته الكاتبة، فلم يعد باستطاعته أن يكتب جميع الكلمات التي يرغب فيها. كانت هناك حروف كثيرة "متمردة" لا تستجيب لضغط أصابعه، مثل: النون والفاء والذال. ونتيجةً لذلك، لم يعد باستطاعة الكاتب الهرم أن يكتب كلمة "نافذة"، خصوصًا أن أصابعه المتصلبة لم تكن قادرةً على استعمال القلم للكتابة. أما الآلة، فقد كان بإمكانها أن تكتب كلمات، مثل: "البيت"، و"الأسرة"، و"الشارع"، و"المطر"، لكن ما جدوى كل هذا، إذا لم تكن هناك نافذة؟


صرتُ مولَعًا بكلمة "نافذة" بَعد قراءة هذه القصة، التي لا أذكر اسمَ كاتبها. وقد تعاظَمَ ولعي بهذه الكلمة، حين اكتشفتُ هذه الصورة الشعرية المدهشة للشاعر الفرنسي أندري بريتون: رَجُل قطَعَتْهُ النافذة إلى نصفَين.

 هكذا انفتحت أمامي آفاق رحبة، لاكتشاف الكلمات واللعب على الكلمات وبالكلمات.

 

 ٢- المثلث المستدير


في مرحلة لاحقة، اكتشفتُ الشاعر الفرنسي ألان بوسكي، الذي يعشق اللعبَ بالمعاني وبالألفاظ. كانت أول قصيدة قرأتُها له هي: "العَبْ يا بُنَيّ بالكلمات":

الحصانُ يُغنّي

البومة تَمُوء

الحمار يغرد

الغدير يَصهل

إنّ هذا لَشَيءٌ جيد، يا ولدي.

فالعَبْ بالكلمات

المثلث مستدير

والثلج ساخن

والشمس زرقاء

والمنزل يسافر

إنك محظوظ

فالكلمات لطيفة

وشديدة السخاء.



  ٣- رامبو: الشاعر المخضرم!


  مع مرور السنوات، ازداد ولعي بالمعاجم، وباكتشاف المعاني المتعددة للكلمة الواحدة.

 وذات يوم، حدثنا أستاذ اللغة العربية في الثانوية، عن شاعر مُخَضْرَم، هو النابغة الجعدي، فانجذبتُ بشدة إلى كلمة مُخضرم.

 إنّ المعنى الشائع لهذه الكلمة هو: "الشخص الذي أدرك الجاهليةَ والإسلام." بَيدَ أنّ هناك معانيَ أخرى كثيرة للمخضرم، ومنها:

 -مَنْ كانَ أسودَ البشَرة وأبوه أبيض.

-الدَّعيّ، الناقص الحَسَب.

-والناقة المخضرمة: التي قُطعَ طرفُ أذنها.

-واللحم المخضرم: الذي لا يُعرف أهو لحمُ ذكر أم لحمُ أنثى.

 أما المعنى الذي شدني حقًّا، في لسان العرب، فهو:

-المخضرم: الرجُل غيْر المختون.

  هكذا اكتشفتُ أن الشاعر رامبو شاعر مخضرَم، وكذلك مالارمي وبودلير وغيرهما من كبار الشعراء في 

الغرب.


 ٤- النابغة


 في الوقت نفسه، دفعني حديث الأستاذ عن النابغة الجعدي إلى الاهتمام بكلمة "النابغة." إنها لَكلمة جديرة بالتقصي.

 فالنابغة، كما نَعرف جميعًا، هو صاحب القدرات الخلاقة، التي لا تُضاهى، في العلْم أو الفن أو الأدب.

 ونبَغَ الرجل فهو نابغة، إذا لم يَكن في أول أمره من أهل الشعر، ثم قال بعد ذلك وأجاد، مثل: النابغة الذبياني، والنابغة الجعدي، ونابغة بني شيبان.

 بَيْدَ أنّ هناك معنىً آخرَ غير شائع، لكلمة النابغة، وهو: البغيّ أو المومس.

 وفي واحدة من خُطَب نهج البلاغة، التي جمعها الشريف الرضي، نجد هذه العبارة، التي وردت فيها كلمة النابغة بمعنى المومس:

 "عجَبًا لابن النابغة، يَزعم لأهل الشام أنّ فيّ دُعابة، وأني امرؤ تلْعابَة، أعافس وأمارس".


 ٥- الحريريّ الحَراميّ


 كان من الطبيعيّ أنْ يَقُودَني اهتمامي بالألاعيب اللغوية والألغاز إلى اكتشاف واحد من أعظم المبتكِرين في هذا المجال، وهو الحريري، صاحب المقامات المشهورة. 

 والاسم الكامل للحريريّ هو: أبو محمد القاسم بن علي الحريري البصري الحَراميّ.

 وسُمّيَ الحَراميّ؛ لأنه ينتسب إلى قبيلة بني حَرام، وهم من الخزرج.

 أما اسم الحريريّ، فنسبة إلى الحرير، الذي كان يتاجر فيه، في مرحلة من مراحل حياته. 

 وقد عاش الحريري في القرن الهجري الخامس، وكتب خمسين مقامة، افتَتَحها بالمقامة الصنعانية، نسبة إلى صنعاء. وإنما بدأ بصنعاء لأنها "أولُ مدينة ظهرَت في الدنيا، بعد الطوفان".

 والشخص الذي يروي هذه المقامات هو الحارث بن همام، أمّا بطلها فهو أبو زيد السّروجي، "سراج الغرباء وتاج الأدباء"، الذي يتفنن في الكُدْيَة ويعتاش بخداع الناس.

  وهو مقتنع تمامًا بنبوغه، وبأنه وحيدُ زمانه في العلم والمعرفة: "فوالذي فَطَرَ السماء وعَلَّمَ آدمَ الأسماءَ، إنّي لَفَقيهُ العَرَب العَرباء، وأعلَمُ مَنْ تحت الجَرباء..."

 والجَرباء هي السماء، سُميت بذلك لِمَا فيها من النجوم.

 والجرباء كذلك هي المرأة المصابة بالجَرَب.

 ومن معاني الجَرباء أيضًا: الفتاة الحسناء، وهو معنى غريب، فسبحان من جَعلَ الكلمات حبلى بغريب المعاني.


 ٦- رَبّات الحجَال بعمائم الرجال


 يَظهر أبو زيد السروجي في كل مقامة بشخصية مختلفة. فهو تارة واعظ وتارة سكير، وقد يظهر في صورة عجوز مكدية، أو خفير أو شخص يبيع أثاث بيته أو حجّام، أو مريض مصاب باللقوة. وهو في جميع الأحوال ذو براعة مذهلة في الحيل والألاعيب اللغوية، ويملك قدرة عجيبة على استنباط المعاني الخفية للكلمات.

  وحين يتحدث مثلًا عن قَتْل العجوز، فهو يعني بالعجوز الخمرَ، أما قتْلُها فهو مزْجها بالكثير من الماء. يقول حسان بن ثابت:

 إنّ التي ناوَلْتَني فرددتُها

 قُتلَتْ- قُتلتَ- فهاتِها لم تُقتَلِ

  وقد تدور ألغازه حول الهُوية الجنسية:

  "في أي موطن تَلبس الذُّكْران براقعَ النسوان، وتَبرز ربّاتُ الحِجَال بعمائم الرجال؟"

  إنّ أبا زيد السروجي رجلٌ يكسب قوتَه بالألغاز والألاعيب اللغوية. وفي المقامة الشتوية، يلقي أبو زيد السروجي قصيدة بائيةً مليئةً بالألغاز على جماعة من الجلساء، لكنه يرفض إطلاعهم على الحلول إلا بمقابل. ويذعن كبيرُ الجماعة ويَهَبُهُ ناقةً عِيدية، إلا أنه ينطلق بالناقة، دون أن يسمعوا منه ما يفك تلك الألغاز العجيبة

 هكذا يبقى أولئك الرجال على حيرتهم، بعد هروب المحتال بالناقة. وأنّى لهم أن يفكّوا ألغازه الغريبة؟

 من يخبرهم مثلًا عن هذا الراكب المغلول الذي يركب فرسًا مغلولًا:

  وراكبٍ وهو مغلول على فرس

  قد غُلّ أيضًا وما ينفكّ عن خَبَبِ

 أو عن هؤلاء المسافرين، الذين انطلقوا من كاظمة ليلًا، فما أسفر الصبح حتى كانوا في حلب:

  ومُدلجين سَرَوْا من أرض كاظمة

  فأصبحوا حين لاح الصبحُ في حَلَب

 ومن هم يا ترى هؤلاء الكاتبون، الذين لا يعرفون قراءةً ولا كتابة:

 وكاتبينَ وما خطّت أناملُهم

حَرفًا ولا قرأوا ما خُطَّ في الكُتُب

 إن أبا زيد السروجي هو الذي يملك الأجوبة الشافية عن كل هذا، ولكنه انصرف قبل الإدلاء بها، والحريري نفسه يصف هذا الداهية المحتال بأنه "إذا باع انْباع وإذا ملأَ الصاعَ انْصاع" أي أنه إذا حصل على ما يطلبه من مال، اختفى عن الأنظار. 

 لقد وضعَ الحريري أمام بطله أبي زيد السروجي تسعًا وأربعين مقامة، يمارس فيها كديتَه وألاعيبه اللغوية كيف يشاء، فهو ينشد الأبيات العواطل، أي العارية من النقط، مثل:

 أعدد لحسّادك حدَّ السلاحْ

 وأورِد الآملَ وِردَ السماح

والأبيات العرائس، التي كل حروفها منقوطة، والأبيات الأخياف، التي تتعاقب فيها كلمات منقوطة وأخرى عارية، (والأخياف في اللغة هم الإخوة من أمّ واحدة وآبائهم شتّى) والأبيات التي تُقرأ في الاتجاهين...

 وفي المقامة الخمسين- المقامة البصرية- يعلن أبو زيد السروجي توبته ويقرر لزوم المسجد.

 ومهما يكن، فقد ترك لنا تراثًا لغويًا رائعًا نستنير به، نحن عشاق الكلمات وعشاق اللعب بالكلمات، علمًا أنّ الكلمات أيضًا تلاعبنا وتلعب بنا، في كثير من الأحيان.



  



Comments


  • Twitter
  • Linkedin
  • Facebook
  • Youtube
  • Whatsapp

 الجمعية السعودية للأدب المقارن © ٢٠٢٣

bottom of page