top of page

الضفة الأخرى | الأدب بوصفه كتابة قصوى: "ريمون كونو" والتلعّب الأدبي عند جماعة "أوليبو" الفرنسية

سياق

أ. د. بسمة عروس



يُعدّ الشاعر والروائي الفرنسي "ريمون كونو" (1976-1903) Raymond Queneau علامة في الأدب الفرنسي؛ لاختصاصه بطريقة في الكتابة قامت على ما يسمى في البلاغة الفرنسية بـ"التلاعب بالألفاظ" (jeu de  mots) في توصيف تبسيطي ومختزل لمذهب شخصية أدبية حاولت النفاذ إلى عمق العملية الأدبية التي ترتهن في نظرها إلى "الدينامية اللغوية" وإمكاناتها الفائقة. لم يكن "كونو" لسانيًا ولم يتخصص في تعليم اللغة الفرنسية -وإن تقلّب في وظائف كثيرة منها ممارسة العمل الصحفي-، ولكنه كان يغذّي شغفه اللغوي الكبير بالتأمل والقراءة، إضافة إلى ولعه بالعلوم ولا سيما الرياضيات. وليست الإشارة إلى الرياضيات مجرّد منعطف نطلّ منه على تفاصيل في السيرة الذاتية أو نحيط بشيء من هواياته، ذلك أن هذا الهوى يمثّل مفتاحًا من المفاتيح نلج بها للتصورات الأدبية التي نادى بها "كونو" وعمل على إجرائها في مؤلفاته الشعرية والروائية طارقًا باب دور النشر العريقة، مثل: Gallimard التي تحفّظت على إنتاجه في البداية(1)، حتى التقى "فرانسوا لو ليوني" François Le Lionnais، الذي كان مهندسًا وكميائيًا ورياضيًا وكاتبًا في آن، ومعه أسس في ديسمبر من سنة 1960 ورشة للبحث في الكتابة الأدبية سميت اختصارًا بعبارة "أوليبو" OULIPO) ouvroir de la litterature potentielle) وهي عبارة عن جمعية تعمل على إقامة جلسات حوارية وإصدار أعمال أدبية تخدم محورًا محددًا أطلقوا عليه اسم الآداب القصوى La  litterature  potentielle وسموا مشغلهم بـ"ورشة الكتابة التجريبية" Litterature experimentale مستهدفَين بذلك تجربة أدبية تتأسس على مفهوم الإكراهات أو القيود في معنى شبيه بما يعرف في البلاغة العربية بـ"لزوم ما لا يلزم". 

ويرمي هذا المشغل/ ouvroir إلى اقتراح تعريف جديد للأدب يستلهم قواعد الكتابة من قوالب رياضية وتمارين لغوية ذات طابع لعبي هازل، عمل المنخرطون فيه على إصدار أعمالهم الأدبية في ضوئه. تزايد عدد الهواة والمتعاطفين مع دعوة هذه الجمعية الأدبية يومًا فيومًا، ولكنه لم يصل إلى الحدّ الذي شكّل فيه موجة جديدة في الأدب الفرنسي استطاعت أن تستمر حتى العصر الحاضر فقد ظلّ إشعاعها محصورًا في الأوساط الأدبية القريبة من "كونو" وخلطائه، مثل: "جورج بيرَك" Goerges Perec الذي يُعدّ واحدًا من أبرز وجوه الثقافة الفرنسية، مارس الكتابة الروائية والمسرحية وكان له نشاط سينمائي معروف. ولم تمنع محدودية هذا الإشعاع من تصدير التجربة "الأوليبية" إن صحت العبارة خارج فرنسا، فقد كان اتجاهها ملهمًا للكثير من الفنانين المعاصرين في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية. ومثلما كانت "الأوليبو" ملهمة، فلا شك أن أفرادها استلهموا أفكارهم من تراكمات وتفاعل مؤثرات لعلّ أبرزها ما نستنطقه من المراحل التي مر بها أبرز أعضائها وهو "كونو"، فقد عرف أولًا بانتمائه إلى التيار السوريالي Surrealisme ثم انشقاقه عنه لينضمّ إلى جماعة الـPatapysique "الباتافيزيك/ الباتا فيزيقا"(2) وهي كما يدلّ عليه مسماها المشتق من سابقة (pata) التي تعني في اللغة الإغريقية ما فوق/ ما بعد الطبيعة، تقوم على أفكار فلسفية تهدف إلى دكّ الحواجز بين الواقع والخيال وتعرّف نفسها بأنها "علم الحلول الخيالية"، وبأنها البعد الآخر الذي ينضاف إلى ما بعد ما وراء الطبيعة Metapysique وهو بعد لازم وضروري لأن الأشياء والموضوعات التي نتعامل معها لا تعطينا إلا بعدًا واحدًا هو البعد الواقعي الذي وطّنا أنفسنا عليه ولكننا إن أنعمنا النظر وجدنا لها صفات أخرى أو بالأحرى صفات مخصوصة، مثل: الصفة الدائرية للساعة إذا نظرنا لها من زاوية مختلفة بدت لنا غير دائرية، وبذلك يمكن القول إن لكل شيء قانونه الخاص به، وغير هذه المبادئ كثير جدًا إلى الحدّ الذي أعلن به الباتافيزيقيون أنه لا يمكن الحديث عن الباتافيزيقا خارج لغتها الخاصة بها وأن الإنسان هو التجسيم الأمثل لفلسفتها. 

تعتدّ الباتافيزيقا كثيرًا بفكرة التضادّ الناتج عن المفارقة وحياة الأضداد داخل إطار واحد مما يفضي إلى نوع من الصدى لازدواجية أصلية، ازدواجية الخير والشر، الصدق والكذب وغيرها في نحو يفهم منه أن مهمة الفنان هي في أن يحاكي كل هذا ويكون في عمله مصداقًا لتقاليد الأسلوب الباتافيزيقي وقيمه. أثمر كل هذا الاتجاه الذي جمع حوله كوكبة من المبدعين أعمالًا عدّت ثورة في تاريخ الحركة المسرحية، غذّتها بظلال من اللامعقول تعبيرًا عن الفوضى واللامعنى التي جاء بعضها في إطار لا يخلو من السخرية وعدم الاكتراث؛ مما أهل بعض الأعمال المسرحية، مثل: أعمال "أوجين يونسكو" Eugene Unesco لأن تكون ضمن العتبات الأولى لمرحلة ما بعد الحداثة الأدبية. أثّرت هذه الأفكار في الكثير من المبدعين والكتّاب الأمريكيين ومنهم James .A.Brewton الذي بعث في 1962 اتجاها في الرسم يجمع بين التجريدية والتعبيرية أطلق عليه وسم الـ Graffiti Pataphysic.

صقلت هذه النقلات أفكار "كونو" وهيأته ليتعمّق أكثر في هواجسه الإبداعية التي يمكن تلخيصها في فكرة واحدة، وهي وجود قالب لغوي لصيغة من صيغ التلاعب بالألفاظ يشكّل البؤرة والقاع في كل عمل من أعماله. وربما تعمّق فضوله "اللغوي" بشكل أكبر لما عايش في تجربته في الخدمة العسكرية في الجزائر والمغرب، اللغة العربية المحكية والفصيحة، حيث حاول تعلّم شيء منها، ونبّهه الاختلاف اللساني إلى دور التجربة السماعية في خلق التجاور الإيقاعي والصوتي وقدحهما الفكرة الإبداعية، فكل شيء يتمّ داخل اللغة وعبرها، في صور الألعاب اللفظية والتبادلات الأسلوبية والتقليبات الحرفية، مما يمكن أن يعبّر -على نحو ما- عن وضعية وجودية وأدبية.

يجسّم التلاعب بالألفاظ في نظر "كونو" جانبًا محفّزًا للإبداع يمكن الاستفادة منه على أنحاء شتى في طليعتها النحو المستمدّ من بعض القواعد الرياضية، ففي إطار ورشات الـ" أوليبو" اُقترح تطبيق القاعدة التي تختزل في صيغة (S+7) وتتمثّل في الاستبدال الوجوبي لكل اسم اشتملت عليه الجملة أو السطر الشعر بسابع اسم مشابه له في النوع والجنس مرتب في المعجم، وقد ونتجت عن تطبيقها نصوص شعرية كثيرة أشهرها نص عارض به "كونو" إحدى خرافات لافونتان الشعرية وهي خرافة "الصرار والنملة". ينضح النص الناتج عن هذه اللعبة اللغوية بأبعاد لعبية تستنفر الدهشة والتأمل في آن واحد، فهي من جهة تعبّر عن جانب من الآلية الرياضية الصارمة وتعكس من جهة أخرى نوعًا من الفجاجة الفكرية التي يمكن أن تمثّل موقف الأديب مما سمي بـ"أزمة العصر الحديث" والتنبؤ بنهاية العالم(3). وقد عرفت هذه الطريقة داخل الأوليبو بتقنيات الـ/ التشفير النسخيCryptographie وهي باب واسع للعب.

 ولعلّ أبسط مظهر من مظاهر التداخل بين اللعبي والأدبي عند "كونو" يظهر في التحرير الذي اختار غالبًا أن يجريه بالطريقة السماعية حيث يتجاوز قواعد الإملاء الفرنسي ويكتب الكلام، كما يُسمع مفجّرًا بذلك عاصفة من الفكاهة قد لا تقف عند مجرّد العبث بقداسة القاعدة، بل تبعث على التفكير في الإمكانات المذهلة للغة وحروفها وشجاعة هذا المبدع الذي تحدى اللغة المتواضع عليها، ليتبنى لغة خاصة به، تحوّلت مع مضيّ السنوات وتتالي أعماله إلى موضوع لدراسات نقدية جادة حاولت فهم "النحو الخاص" بالألاعيب اللفظية في أعماله. ومن أبرزها دراسات استخرجت الكلمات الغريبة التي استنبطها (Neologisme) مُحاولةً فهم أسلوب الاستنباط لديه، مثل: كلمة "Doukipudonktan" التي افتتح بها روايته الشهيرة "Zazie dans le metro" (زازي في المترو).

ومن أساليبه في تلعيب اللغة ما سماه الدارسون بـ"الترخيم الابتدائي" aphérėse ويتمثّل في حذف المقطع الأول من الكلمة فتبدو كالمثلومة ويتكرر الأمر في النص بأكمله حتى يعتاد القارئ هذه اللعبة وتفقد غرابتها، ولكن تأثيرها فيه يظلّ حيًا عميقًا إذ يخاطب فيه منطقًا لغويًا ما ويحمله على التعامل مع اللغة بجرأة وقسوة، يكون فيها اللامعنى أبلغ تعبير عن استحالة تعقّل العالم والوضعية الإنسانية. وعكس هذا الترخيم، الترخيم النهائي Apocope وهو حذف المقطع الأخير من الكلمة، ومن أنواع التلعيب كذلك أسلوب يمكن نعته بـ"تعدد الصور النحوية" polyptote والمقصود به أن الجملة تشتمل على كلمة أو اسم يرد أكثر من مرة ولكن في مواضع نحوية مختلفة على نحو شبيه بالتقليبات المختلفة لمادة لغوية واحدة. ويمكن أن ترجع هذه المناويل إلى شكل من أشكال ترييض اللغة، لا يراد منه إحلال المنطق الرياضي محلّ المنطق النحوي لكسر مواضعاته ولكن يراد منه كسر منطق ما بمنطق آخر حتى ينتهي الأمر إلى تفقير المنطقين معا وإحالتهما إلى نوع من العدمية.

إن محاولة إعادة الألاعيب اللفظية في أعمال "كونو" إلى مناويل وقوالب أسلوبية، هو نوع من الإدماج اللغوي لمحاولات التمرّد على اللغة نفسها، ولكنه يبقى دليلًا على أن أداة اللعب الأساسية هي اللغة وهي الكفيلة بإخراج بعد مهم من أبعاد الأدب وهو اللعب. ولا يكتفي "كونو" بما في باطن اللغة من جيوب لعبية يطعّم بها نصوصه حيث يعمد في كتابه "تمرينات أسلوبية" إلى الاستغناء عن الموضوع والاكتفاء بالتقليبات الأسلوبية لوضعية واحدة عبّر عنها كل مرة بأسلوب مختلف حتى بلغ تسعًا وتسعين طريقة! في منزع لا يوقعنا في التعجّب من قدرة هذا المبدع قدر ما يوقعنا في فكرة تحوّل الكتابة إلى معنى من معاني اللانهائي.




1- من المفيد أن نشير إلى أن" ريمون كونو "عمل منذ 1938 بصفة قارئ ومراجع، ثم صار عضوًا أساسيًا في لجنة القراءة في هذه الدار، ثم الأمين العام لها، ومديرًا لموسوعة الثريا Encyclopedie de la Pleiade، ولكن إشارتنا هنا إلى أن أول مخطوط قدمه هذا الكاتب لم يحظ بالقبول. وانفتحت الأبواب له من بعد وتحديدًا منذ أن نشر روايته "Zazie dans le metro" (زازي في المترو) التي حظيت بتنويه وإشادة واسعتين وتحولت إلى سيناريو شريط سينمائي. 

ويمكن أن نضيف أيضًا أن كاتبنا كان ضمن لجنة تحكيم مهرجان "كان" Cannes السينمائي بين سنتي 1955 و1957.

2- تيار فكري واسع أثّر في الفن المسرحي المعاصر أوما عرف بمسرح العبث واللامعقول، أبرز أعلامه "بوريس فيان" Boris Vian و"يوجين يونسكو" Eugene Ionesco و"جان جونيه" Jean Jenet و"ريمون كونو" Raymond Queneau، أما مؤسسه وباعث المذهب فهو الفرنسي "ألفريد جاري" Alfred Jarry ، الأديب والكاتب المسرحي المعروف.

3- من المفيد هنا أن نشير إلى تأثير الفيلسوف الفرنسي Rene Guenon الذي وإن توفي في 1951 فهو يعدّ من أبرز أعلام الفلسفة المعاصرة، كانت بينه وبين "كونو" مراسلات كثيرة تكشف عن اهتمام كبير بأطروحاته الفكرية، ولا سيما ما تعلق منها بأزمة العالم الحديث وافتقاره إلى القيم الإنسانية. انكب هذا الفيلسوف على دراسة الفلسفات الشرقية وألّف فيها. استقر في مصر منذ 1931 وقد يكون اعتنق الإسلام، ولكن الثابت أنه انخرط في الجماعات الصوفية تدريبًا لملكة المعرفة الغنوصية التي آمن بها وتحدى بها الفلسفة العقلانية.


Comentários


  • Twitter
  • Linkedin
  • Facebook
  • Youtube
  • Whatsapp

 الجمعية السعودية للأدب المقارن © ٢٠٢٣

bottom of page