top of page

سلالم | بلاغة اللعب اللغوي

سياق

فاطمة محسن عقيبي


   

حين يقع في أيدينا كتاب ما، تتضمن إحدى صفحاته لعبة لغوية لغزًا كان أو أحجية، شعرًا كان أو نثرًا، فإنه لا يمكننا منع الرغبة الملحة التي تتملكنا في فك شفرتها لاكتناه سرها، حيث تخلق حالة ذهنية شديدة اليقظة فينا وشعورًا بالتحدي باختلاف الأعمار. دفعني ذلك للتساؤل حول علاقة هذا التأثير بالبلاغة، والقوة الفكرية المنتجة لهذا اللعب، وعلاقة البلاغة باللعب اللغوي منذ تاريخ تأليفها.

     يرتبط اللعب اللغوي بملكة الخيال، وهي بدورها ترتبط بمنظومة القوى التي تنتج الأفكار الجديدة وتترجمها، وتشكل عملًا إبداعيًا خلّاقًا، يتكشف معناه بعد إدراك الحقيقة الكامنة بين دقائق العلاقات الخفية في الأشياء، وهي لذلك تستوجب مستوى عاليًا من الذكاء والفطنة والتجربة والخبرة، بقرينة التحدي والتشفير التي ينهض عليها اللعب اللغوي. ويرتكز الفهم البلاغي للعب اللغوي على محورين: المحور الجمالي الفني الذي يقوم على إنشائها ويرتبط بالمبدع، حيث يعتمد على البلاغة في حبكها وفق إطار الإبهام والإلغاز، والمحور الوظيفي التأثيري التفاعلي المرتبط بالتأويل حين يستقبل فيه المتلقي اللعب اللغوي ويتحقق فهمه عبر إعمال الذهن للوصول إلى إدراك المعنى المخفي والمرمز خلف المعنى الظاهر، بواسطة ضبط التأويل وفق السياق الداخلي الذي يرتكز على مسائل اللغة البلاغية والسياق والخارجي المتكئ في جزء منه على مقتضى الحال، الذي يطابق فيه اللفظ سياق الموقف فيفسره متلقيه وفق قواعد اللغة وبلاغتها، فاللعب اللغوي إذن يبدأ وينتهي مع البلاغة.

     لو تتبعنا ما نظم في اللعب اللغوي سنجد أنه يسير في التراث وفق المحور الفني الجمالي، فتشكلاته ترتبط بما جُمع في مصنفات اللغة من المتأخرين مما تناثر في مصنفات المتقدمين تحت مسمى الألغاز والأحاجي ورسائل التعمية وغيرها من المسميات المترادفة؛ فالعرب عرفته ونظمت فيه شعرًا ونثرًا، ومن أكثر ما تردد في المصنفات ما ذكره الأزدي في كتابه "بدائع البدائه" حول المساجلة والحوار الشعري بين عبيد بن الأبرص وامرئ القيس فيما نصه: "لقي عبيد بن الأبرص امرأ القيس، فقال له عبيد: كيف معرفتك بالأوابد؟ فقال: ألق ما أحببت؛ فقال عبيد:

ما حبة ميتة أحيت بميتها ... درداء ما أنبتت سنا وأضراسا

فقال امرؤ القيس:

تلك الشعيرة تسقى في سنابلها ... فأخرجت بعد طول المكث أكداسا

فقال عبيد:

ما السود والبيض والأسماء واحدة ... لا يستطيع لهن الناس تمساسا

فقال امرؤ القيس:

تلك السحاب إذا الرحمن أرسلها ... روى بها من محول الأرض أيباسا"(1)

      إلى آخر ما قاله. 

     هذا الفن في بدايته لم يكن مخصصًا بدواوين وكتب مخصوصة ولم يفرد في الدراسات البلاغية مبحثًا فيها، وجاء الجمع فيه متأخرًا مثل ما فعل السيوطي في كتاب "المزهر في علوم اللغة" بجمعه للأنواع الثلاثة: الملاحن والألغاز وفتيا فقيه العرب بصفتها لطائف وملحًا، فالملاحن يوري بها الشخص عن المراد بقول آخر وتختص بالنثر، والألغاز التي نظم أكثرها شعرًا منها ما يقع في المعاني وخاصة في أبيات المعاني التي تحتاج إمعانًا في النظر، ومنها ما يقع في الألفاظ والتركيب والإعراب، وأما فتيا فقيه اللغة فتقع ضمن مسائل الفقه ولكنه عدها ضربًا من الألغاز(2)، ولعل ذلك ما يشير إلى القيمة المنخفضة التي أولاها البلاغيون إلى الألغاز لأنهم يرون فيها نظمًا تعليميًا ولا تحمل قيمة إبداعية عالية. 

      تحت مظلة الكنايات أدخل البغدادي في خزانة الأدب جمعًا من الألغاز بأنواع مختلفة المسميات والمفهوم وهي: المعاياة والعويص واللغز وَالرَّمْز والمحاجاة وأبيات الْمعَانِي والملاحن والمرموس والتأويل والكناية والتعريض والإِشارة والتوجيه والمعمى والممثل؛ كلها متفقة في المعنى وإن اختلفت اعتباراتها، وعرج بتفريق علماء الأدب بين المعمى واللغز، كما أدرج الأحاجي تحت المعمى التي اخترعها الحريري ونظمها في مقامته السادسة والثلاثين. وكانت هذه بمنزلة الشرارة التي أسفرت عن توسع وانتشار وعلو شأن الإلغاز وكثرة المصنفات بعد تأسيس أدباء العجم قواعد تميزها عن سائر الفنون(3)، هذه التنظيرات والمفاهيم الدقيقة تفتح آفاق النظر إلى تلك الأنواع الملغزة، بكل ما فيها من خفة ولطافة تأسر الألباب للوقوف على مكامن الحس الإبداعي والقيمة البلاغية العالية التي تؤثر في متلقيها. فحين يلفينا قول أبو العباس ثعلب: 

"ولقد رأيت مطية معكوسة ... تمشي بكلكلها وتزجيها الصبا

ولقد رأيت سبيئة من أرضها ... تسبي القلوب وما تنيب إلى هوى

ولقد رأيت الخيل أو أشباهها ... تثنى معطفة إذا ما تجتلى

ولقد رأيت جواريا بمفازة ... تجري بغير قوائم عند الجرا"(4)

     يتوقف الذهن حائرًا حيث يدرك من أول وهلة أن المراد خلاف الظاهر، مستدعيًا البلاغة والمخزون المعرفي والثقافي لفك الشيفرة، فيبحث عن تأويل المعنى الخفي خلف المجاز، وحين يبلغ الذهن الجواب يقع المعنى في نفس المتلقي ويؤثر فيه فيصل المخاطِب غايته، وهذا عين البلاغة.

    ولا نستطيع غض الطرف عن رأي الخفاجي في كتابه سر الفصاحة في معرض حديثه عن الألفاظ المؤلفة حيث أخرج أنواع الألغاز من البلاغة وعدها مخالفة للفصاحة التي تهدف الوضوح والبيان؛ لأنها كما يقول جاءت على وجه الإلغاز بخلاف الأصل في الكلام الفصيح(5)، وكذلك الرأي المشاكل لصاحب الطراز لأسرار البلاغة حين علق على أن الكناية والتعريض والأحاجي والألغاز والمغالطة لا تتعلق بكبير بلاغة ولا عظيم فصاحة ولكنه ناقض نفسه بوضعه إياها ضمن التورية المصنفة داخل مبحث الفصاحة اللفظية: كونها دالة على أمور بظاهرها وكني عنها وأوهم بإرادة غيرها، وإقراره مكانتها عند عدد من أهل البلاغة(6)، ولعله تردد خشية مخالفة البلاغيين المتعصبين ضدها؛ لأنهم كانوا يجعلون من القرآن الكريم معيارًا للفصاحة والبلاغة، وبِخلوه مما يعد لعبًا لغويًا جعلوها في مرتبة دنيا من الفصاحة، كما أنه كان يسير على سنة من أدنى فنون البديع عن علوم البلاغة الأخرى حيث كثر الإلغاز به. ويدفعنا كلام السيوطي عن حرص أدباء العجم على جمعها إلى التساؤل عن وجود أسباب أخرى غير الفصاحة لرفض الخفاجي وغيره لهذا النوع الذي ينطوي على تفنن في الكلام وتخليق صور بديعة. ويمكن أن نستقطب قول حاجي خليفة في كشف الظنون للرد على الخفاجي حين جعل الإلغاز فرعًا من علم البيان بعبرة الخواتيم حيث تتبين الحقيقة وتتضح الدلالة أخيرًا(7). ليس هذا فحسب فالدراسات البلاغية الحديثة لهذا الفن، مثل: دراسة: "لغة الألغاز في العصر المملوكي الأول (684هـ- 784هـ) نداء عبدالرحمن، رسالة ماجستير، فلسطين: جامعة النجاح"، ودراسة: "الألغاز في الرسائل المعماة بين الإنشاء والتأويل؛ مقاربة بلاغية، لعبدالكريم النوراني حولية كلية اللغة العربية بجرجا، ع: 1، مج، 23، 2023م"؛ قد أسفرت عن جماليات اللعب اللغوي فيها حيث التنويعات البديعية والتصوير البياني والتشخيص والتجسيم عبر الصوت واللون والحركة، وتحريك الخيال عند المتلقي أيضًا بالتذوق أولًا ثم استدعاء صور متعددة عبر مستوى التأويل حتى يصل الذهن إلى الفكرة الرئيسة والخطاب المقصود، أو ما نطلق عليه الحل فتنجلي حقيقته ويبرز بيانه.

     وعلى الرغم من انصراف البلاغيين قديمًا وحديثًا عنها وأنفتهم منها، إلا أنها تتضمن بمفاهيمها مباحث بلاغية كما ورد سابقًا، ويجمعها اللعب اللغوي والتورية بخصيصتي الدقة والخفاء اللتين تستلزمان تكرار النظر، والغرابة التي تأسر لب متلقيها، الأمر الذي يتطلب ممن يحيكها قدرة عالية على توليد المعاني العبقرية، وقوة في تصريف الألفاظ. على شريطة عدم المبالغة في الخفاء أو التعمية، ما يترك للمتلقي خيطًا يصله بالحقيقة ويقع في نفسه ويأخذ بلبه. 

    في واقعنا المعاصر استمرت النظرة للعب اللغوي كما في التراث بارتباطه مع اللغة، وسار في مسارات تعليمية وتأثيرية نحو المحور الوظيفي التفاعلي بهدف تعلم المهارات اللغوية الأساسية، واستفاد بعضها من مباحث البلاغة كأداة لتقييم العملية التعليمية، لكن مدار عنايتنا هو ما تناولته الدراسات البلاغية الحديثة من اللعب اللغوي، مثل: الألغاز الشعبية، وإعادتها النظر في التراث الفني للألغاز والأحاجي، وننبه إلى اختلاف تشكلات هذا الفن قديمًا عنه في وقتنا الحالي حيث يمكن تلمسه داخل النتاج الأدبي وخاصة في السرد الذي تكوّن بعض عناوينه أحاجي تحل بتمام القراءة كالروايات البوليسية، أو يكون اللعب اللغوي داخلها  مضمنًا يمكن استنطاقه عبر الصورة الكلية أو الجزئية، ومن هنا نتساءل: لماذا لا تقف البلاغة الحديثة بدراساتها على تشكلات اللعب اللغوي في النتاج الأدبي الحديث كونه يمتلك طاقة تأثيرية بارتكازه على البلاغة، ولماذا لا تكون هناك دراسات بلاغية معرفية تدرس اللعب اللغوي بصفته طبيعة ذهنية وسلوكًا فكريًا يرتبط بالذكاء، وينطوي خلف دوافع نفسية واجتماعية تؤدي إلى ظهوره ونظمه، فالبلاغة هي أحد المكونات الرئيسة في الإبداع والتأويل للعب اللغوي.


1- يظهر من هذه الأبيات عدم صحة نسبتها إلى الشاعرين الجاهليين؛ إذ يلحظ فيها سهولة ألفاظه وتأثرها بألفاظ القرآن الكريم، وبغض النظر عن هذه المشكل إلا أن الإلغاز فيها لا يخلو من حسن بديعي. علي، الأزدي، بدائع البدائه، مطبعة مصر، 1861م، ص: 6.

2- عبد الرحمن، السيوطي، المزهر في علوم اللغة وأنواعها، ت: فؤاد منصور، بيروت: دار الكتب العلمية، 1998م، ج: 1، ص: 442- 480 وما بعدها.

3- عبدالقادر، البغدادي، خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب، ت: عبدالسلام هارون، القاهرة: مكتبة الخانجي، 1997م، ط: 4، ج:6، ص: 447- وما بعدها. 

4- أراد بالمطية: السفينة.وبالسبيئة: الخمر.وبالخيل: تصاوير في وسائد.وبالجواري: السَّرَاب، المزهر في علوم اللغة، مرجع سابق، ج: 1، ص: 450.

5- عبدالله ابن سنان، الخفاجي، سر الفصاحة، دار الكتب العلمية، 1982م، ص: 226.

6- يحيى، الطالبي، الطراز لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز، بيروت: المكتبة العنصرية، 1423هـ، ج: 3، ص: 36 وما بعدها.

7- حاجي، خليفة، كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، ت: محمد شرف الدين، إسطنبول: وكالة المعارف، 1941م، ج: 1، ص: 149.


باحثة دكتوراة في الأدب والنقد بجامعة الملك عبدالعزيز، ماجستير الأدب والنقد من جامعة جدة، مهتمة بالدراسات القرآنية والبلاغية وما يتصل بها من الدراسات الحديثة والبينية.



Comments


  • Twitter
  • Linkedin
  • Facebook
  • Youtube
  • Whatsapp

 الجمعية السعودية للأدب المقارن © ٢٠٢٣

bottom of page