تتنوع علاقة الباحثين بالنص الأدبي بتنوع مقاربتهم له عبر أدوات نقدية حديثة ومعاصرة تهدف إلى سبر أغواره؛ أملًا في الكشف عن أنساقه المتعددة أو جوانبه الفنية والموضوعاتية، وفق غرض كل مقاربة، كما تتجدد هذه العلاقة وتختلف بتجدد المفاهيم النقدية واختلاف وجهات النظر حولها، لا سيما الرقمية بمفهومها الحديث وأبعادها المختلفة؛ إذ إن الرقمية قد انسجمت مع عناصر التقنية الحديثة وأصبحت إطارًا للإبداع الأدبي المرقَّم على صفحات الإنترنت، ونظرًا لجدة هذا التكيف بين الأدب والرقمنة فقد فرض بدوره على الأدباء "الرقميين" قيودًا عديدة قد تصل بعضها إلى درجة الخطورة، التي تتمثل إما في إضفاء عناصر معينة على نتاجهم الأدبي كالوسائط التقنية مثلًا، وإما في الغزارة الإنتاجية التي تجعله عرضة للتغيير أو الانتحال رقميًّا، أو غير ذلك من القيود والتغييرات الرقمية المهمة، ومن هنا تروم سياق في هذا العدد الرقميّ استقراء آراء بعض النقاد المهتمين بالرقمنة في المملكة العربية السعودية حول مفهوم الأدب الرقمي وحقوق المؤلف الرقمي الفكرية، وما قد يعتري هذا الاتجاه التجديدي من عوائق على مستوى المفهوم أو التأليف والنشر.
من جهتها ترى أستاذة الأدب والنقد بجامعة الأميرة نورة بنت عبد الرحمن، الدكتورة نوال السويلم أن "اختلاف النقاد حول مفهوم الأدب الرقمي وحدوده يؤدي إلى تفاوت وعدم اتفاق على وجوده"، إلا أن هذا الاختلاف من وجهة نظرها: "كان مشروعا في بداية التعاطي مع المصطلح شأن أي ظاهرة أدبية نتلقاها بحذر وجدل، والآن بعد رسوخ التقنية وحضورها العميق في مجالات الحياة كلها، واعتمادنا عليها وسيطا في تقديم الأدب، ما من بد من الحاجة إلى هذا المصطلح؛ لنعبر به عن كل أدب يستخدم التقنية بنسب متفاوتة،" وتؤكد أ.د. السويلم أنه وفق هذا المعنى الواسع: "يوجد لدينا أدب رقمي، وكثير من النصوص تستعين بالتقنية، كالمؤثرات الصوتية والصورة الثابتة والمتحركة والروابط،" وترى أن "من أنجح الممارسات في هذا المجال، هي القصة الرقمية للأطفال، والأفلام الوثائقية السيريّة، والدواوين الصوتية، وأي مادة أدبية تسهم التقنية في تقديمها بأسلوب مخالف للوسيط الورقي." كما تؤكد بأننا "ما زلنا في أبسط مرحلة لم نتجاوزها إلى ما يسمى بالأدب التفاعلي، وفي هذا النوع الدقيق لا يوجد لدينا رصيد هائل من التجارب الإبداعية، وما قُدِّم محاولات لا تشفع بعمق ونضج التجربة في الأدب المعاصر، إضافة إلى أنها لم تحقق ذيوعا وانتشارا على مستوى العالم العربي".
ومعها يتفق أستاذ الأدب والنقد بالجامعة الإسلامية الدكتور ماهر الرحيلي، حيث يرى أن "التساؤل عن وجود حقيقي للأدب الرقمي ينبع من عدة جهات، أولها عدم الاتفاق على ما ينطبق عليه هذا المصطلح تفصيلا، ومن ثم فإن هناك مستويات لا تصدق عليها التسمية بالأدب الرقمي عند كثير من الدارسين والمهتمين"، وذلك من وجهة نظره بسبب أن مصطلح الأدب الرقمي "يتسع عند بعض المختصين ليشمل كل ما أصبح من مدخلات الحاسوب والتقنية وخضع للغة الرقمية 1-0 مع الحفاظ على الشرط الأدبي بطبيعة الحال، فهو حينئذ أدب رقمي، وتضيق الدائرة عند فئة أخرى لتقصر هذا النوع من الأدب على ما لا يمكن أن يُقرأ إلا من خلال الوسيط الإلكتروني أو التقني فحسب، وهو حينئذ يشتمل بالتأكيد على روابط تشعبية ووسائط متنوعة من الصوت والصورة والفيديو، ويتمتع بصفة التفاعلية إما فيما بين المتلقي وبين هذه الروابط والوسائط من ترتيب تشغيلها حسب رؤيته وتفاعله الخاص، وإما فيما تقتضيه طبيعة بعض التجارب الأدبية التي بنيت على مشاركة المتلقي في كتابة جزء أو أجزاء من النص الأدبي الرقمي." أما التساؤل الثاني لدى د. الرحيلي فينهض من "قلة التجارب الرقمية على مستوى العالم العربي مما يوحي بضعف وجود هذا النوع من الأدب الذي قد يوحي إلى حد عدم الوجود عند بعضهم"، كما يشير د. الرحيلي هنا بأن هذا الضعف "أمر واقع ومشاهد، ولعل المتأمل يلحظ تكرار استدعاء أصحاب هذه التجارب القليلة في الملتقيات والمؤتمرات لا لشيء سوى عدم وجود أسماء أخرى جديدة وفاعلة، إضافة إلى أن حتى هؤلاء الذين سبقوا إلى هذه التجارب الأدبية الرقمية توقف بعضهم عندها ولم يتابع بجديد منذ سنوات عديدة." ولا يتجاوز أ.د. الرحيلي هذا السياق حتى يزيد متفائلًا بحاضر الأدب الرقمي ومستقبله، بقوله: إن "الواقع يستدعي أن نكون منصفين تجاه تجارب متنوعة نوعية موجودة في الساحة الرقمية، فعلى سبيل المثال أدب الرحلة المرئي، وأدب السيرة الذاتية المرئي أو التلفزيوني، هما نموذجان ناجحان للأدب الرقمي وأظن إسهام العنصر المؤسسي أحد أسباب هذا النجاح، ولهما خصائص بعضها مشترك مع الأدب الورقي وبعضها جديد ويحتاج إلى دراسة وتمعن، وهو ما حصل بالفعل في بعض الرسائل العلمية التي سعدت بمناقشة إحداها أخيرًا بجامعة الملك خالد وكانت عن أدب الرحلة المرئي".
أما أستاذ الأدب والنقد بالجامعة الإسلامية الدكتور أحمد اليتيمي فيؤكد من جانبه أن "الأدب الرقمي موجود في الساحة الأدبية على مستويات متفاوتة، وإن كان في مجمله يميل إلى التجريب، ويسعى إلى تدعيم حضوره وإقناع المتلقي بشخصيته وقدرته على التأثير، والحصول على مكانة ملائمة في أصناف الأدب وأجناسه." ويتفق د. اليتيمي مع كلٍّ من أ.د. السويلم وأ.د. الرحيلي في إن: "إشكالية التسمية [من وجهة نظره] ليست متعلقة بوجوده أو عدمه، بل هي متعلقة بحقيقته وماهيته؛ فالدراسات النقدية مختلفة في توصيف الأدب الرقمي ومكوناته وسماته، بين اتساع يُشرك الرقمي بالكتابي الكلاسيكي ويغيب ملامحه، وتضييق يستبعد بعض العناصر والسمات التي تحققها الرقمية. ومن هنا فإن التسمية ستكون دقيقة لو وجدت وصفا دقيقا للأدب الرقمي، يبرز الخصائص الرقمية المؤثرة في العمل الأدبي، ويضع حدا بين الرقمي وما سواه".
وفي هذا السياق يشدد أستاذ الأدب والنقد المشارك بجامعة الباحة الدكتور فلاح بن مرشد العتيبي على ضرورة "تحرير المصطلح الذي ما يزال ضبابيًّا -حتى الآن- في العالم العربي!"؛ لأنه يرى أن هناك " خلطًا كبيرًا بين مفهوم الرقمنة، وعرض المحتوى؛ فالمنظرون للأدب الرقمي يرون أن الأدب الرقمي لا يمكن أن يتأتَّى لمتلقيه إلا عبر الوسيط الإلكتروني، أما ما يمكن عرضه عبر الوسيط الإلكتروني والوسيط الورقي معًا فلا يُعد أدبًا رقميًّا؛ لأنه مجرد نقل من وسيط إلى وسيط آخر، وبذلك يفقد صفة الرقمنة."
وهو ما يراه أيضًا أستاذ الأدب والنقد المشارك بجامعة المجمعة الدكتور طنف العتيبي، إذ يقول: "علينا في البداية أن نثير قضية مهمة حول مصطلح الأدب الرقمي، تكمن في كثرة المصطلحات الدالة على ذلك وتنوعها، ولعل هذا يطرح إشكالًا كبيرًا يتجلى في تحديد المصطلح الدقيق، الذي يمكن أن ينهض بهذا اللون من الكتابة، ويستوعب أبرز هذه التحولات وتحديد سماتها النصية ومقوماتها الأسلوبية. ولا شك أن هذا التنوع الاصطلاحي يعلن عن حيرة الباحثين والنقاد أمام هذه الظاهرة الجديدة التي طرأت على الخطاب الأدبي".
ومن خلال ذلك يرى أن "الأدب الرقمي يقع بين تيارين: الأول يرفضه ولا يدرجه ضمن حرم الأدب، وهو وافد من أعماق التاريخ العربي وضارب بجذوره في الفكر النقدي والثقافي القديم، والآخر يسعى إلى تجنيسه وإدراجه ضمن أجناس الأدب المعروفة اليوم، وهو تيار وافد من حاضر القول، وتجدد الحياة ومواكبة كل حديث." ومن هنا يتساءل د. طنف العتيبي: ما الذي في الأدب الرقمي يشد الانتباه؟" ليجيب عنه بقوله: "إن الإجابة عليه عسيرة؛ لأنها تفتح مجالًا واسعًا لأسئلة أخرى؛ خاصة إذا ما علمنا أن ثمة قراءات للأدب مخصوصة، تلك القراءات تنطلق من المنهج الذي يحدد مقروئية كل خطاب أدبي. والأدب الرقمي بطبيعة الحال أصبح اليوم خطابًا أدبيًا مستقلًا بذاته. فهل يمكن أن يكون له ناقد مختص؟ أم أنه فرع من فروع الأدب الورقي الذي عهدناه منذ زمن؟ وهل علاقة الأدب الرقمي بسياقه كعلاقة الأدب الورقي بسياقه؟ أم أن الأدب الرقمي له سياقاته المختلفة على نحو ما نجد في تقنيتي الصوت والصورة وهما تقنيتان تحققان خصوصية هذا الأدب؟". ويختم د. طنف العتيبي مؤكدًا بأن "لدينا أدبًا رقميًا لا نعلم متى يأخذ حقه من الانتظام في الشكل والمضمون، وقد رأينا قصائد، وروايات رقمية، وقصصًا قصيرة، وغيرها. غير أنها لا زالت في طور التشكل والتجنيس، وسيأتي عليها زمن يحقق لها مقروئيتها الخاصة. خاصة أننا أمام أدب متجدد؛ لأنه يخضع لظروف التقنية والعصر ومستجداتهما".
أما د. فلاح العتيبي فمن جانبه ينفي وجود ما يعرف بالأدب الرقمي (المعروف بتجربته الأمريكية والأوروبيَّة) إلا في تجارب معدودة، وإن "ما نراه اليوم من كتابة للأجناس الأدبية المتنوعة كافة من شعر ونثر عربيًّا عبر المنافذ الإلكترونية المتعددة ما هو إلا مجرد "تجريب" للأديب يعرض من خلاله الأدب عبر الوسيلة الإلكترونية (الجوال – الحاسوب)، ولم يزد على الكتاب الورقي إلا بإتاحة الفرصة أمام المتلقي بالتعليق والتفاعل عبر الردود. وبالتالي فهذا النوع من الأدب ليس جنسًا أدبيًّا جديدًا؛ بل هو عملية نقل من النمط الوثائقي (الورقي) إلى النمط الرقمي عبر وسيلة جديدة يمكن عرض الأدب وعرض غيره عن طريقها، وبذلك فإن تسميته جنسًا أدبيًّا فيه خلط بين الأدب والوسيلة الذي يُمكن أن نسميه أدبًا رقميًّا هو ما نُقل إلى الوسيط الورقي فقدَ مفهومه وخاصِّيته، وهذا النوع لا يمكن تحققه عربيًّا إلا في كتابات عدد يسير من الكُتَّاب العرب أمثال محمد سناجلة في: "ظلال الواحد"، و "شات"، و"صقيع"، ومشتاق عباس معن في "تباريح رقمية لسيرة بعضها أزرق"، وكذلك ما نجده عند هيثم نوح، ومحمد رضا الموسوي؛ لأنها أعمال تحتوي على أمور لا يمكن أن يحملها النصّ الورقي." كما ويندد د. فلاح العتيبي بما يفعله عدد من المؤلفين الإلكترونيين من كتابة أحرف راقصة، وإضافة مؤثرات أو خلفيات صوتية، أو صور معينة ما هو إلا تلاعب بالتقنية وليس أدبًا. ويضيف قائلًا: "إن ما يفعله بعضهم من إدخال صور مصاحبة لنصوص قديمة تتزامن مع بعض أفكار القصيدة ومضامينها تعمل على تقليل سعة الخيال عند المتلقي الذي كان يبحر بخياله مع التصوير الفني الذي يرسمه الشاعر؛ لذا فإن مثل هذه الأعمال لا تعد أدبًا رقميًّا كما يدعي بعضهم، بل هي مجرد تلاعب بالتقنية كما أسلفنا".
وتشترك مع سابقيها أستاذة الأدب والنقد المشارك بجامعة الملك عبد العزيز، الدكتورة رانية العرضاوي، إذ تقول: "يمكنني ببساطة أن أهزّ رأسي وأقول نعم، يوجد أدب رقمي، وأتفق مع جمهور الساحة الثقافية والأدبية، وينتهي عندها الجدل، لكني حقيقة لا أجد هُوية أو كيانًا واضحًا ومُحدّد الملامح لما يُسمّى "الأدب الرقمي" على الأقل من وجهة نظري النقدية، فما يتداول حتى الآن غير محدّد الهوية، بل هو نوع شبحي، يحاول التسلل في قوالب تقنية مختلفة ليكون موجودًا، فإذا فتشت فيه وجدت علامات متداخلة ومتشابكة مع أنواع الأدب غير الرقمية وأجناسه التقليدية، مستفيدًا من تقنيات الصورة والصوت واللعب الشبكي البصري، لذلك -ورغم كل ما قدمته الدراسات النقدية التأسيسية لهذا الأدب- تبقى الشبحية والهلامية هي المائزة الكبرى له. وما يؤيد قولي هذا، هو عدم استقرار المصطلحات الخاصة بالأدب الرقمي، وتباينها بين النقاد حتى كتابة هذه الكلمات، وتداخلها مع مصطلحات أخرى كالأدب التفاعلي، والأدب التواصلي وأدب ما بعد الإنسانية وأدب الذكاء الاصطناعي، وهلمّ جرَّا".
أما ما يتعلق بإشكالية الحقوق الفكرية لنتاج المؤلفين الرقميين، فيرى الدكتور اليتيمي أن "قضية الحقوق الفكرية للعمل الأدبي تعد من أبرز إشكالات الأدب الرقمي، وتنظر للمبدع من زاويتين مختلفتين، إحداهما تسعى لحماية المبدع وإبداعه، ومحاولة الحفاظ على النص بهيئته التي نشرها المؤلف، منسوبًا له، والزاوية الأخرى تنظر للمؤلف بوصفه شريكًا في صناعة العمل الأدبي إلى جانب الفني أو التقني الذي شارك في تصميم وإخراج العمل من زاويته الرقمية الفنية." كما يرى أن حماية حق المبدع ربما "تواجه صعوبة في ظل التداول الواسع والسريع للنصوص الأدبية في العالم الرقمي، ليكون النص مجهول النسبة، أو منسوبًا لغير مبدعة، أو تصرف الناقل بالنص وفق ذوقه وهواه، فيصعب على المبدع متابعة رحلة النص وما يعتريه من تغيرات تعزله عن مبدعه، أو تتصرف به لتغيير ملامحه وبنائه".
وتصف د. العرضاوي هذه الإشكالية الرقمية بقولها: "كلنا يعلم استمرار معاناة المؤلف عبر العصور في حفظ حقوقه، وأشكال السرقات التي تتعرض لها الأعمال الأدبية والفنية بشكل عام منذ أن ظهر الفن والأدب، فما بالك بما تقدّمه التقنية اليوم من سوق سوداء يسهل فيها اصطياد الفرائس الأدبية والإبداعية، وتقديمها بأنساب مجهولة أو مقطوعة أو مُنتحلة. وأنا بصدق أشعر بالأسى الكبير تجاه الأعمال الإبداعية التي لا تُحفظ إلا في عالم التقنية الذي قد يتلاشى فجأة بسبب جرثومة إلكترونية، أو هاوٍ مجنون بنسف وقرصنة البيانات." وهذا كله من الاحتمالات الواردة، ومع ذلك تؤكد د. العرضاوي هنا بقولها: "لست متشائمة، لكني واقعية، أتعامل مع هذه التقنية بحذر شديد، فحقوق المؤلفين اليوم في كل ما يقدمونه من مواد إبداعية في أي قالب تقني هي حقوق في مهبّ الريح، تحتاج إلى تحديد وحوكمة صارمة، ومعاهدات دولية وحقوقية واسعة لضمان حفظ هذه الأعمال للبشرية في أزمنتها المختلفة".
ومع هذين الرأيين يتفق أيضًا كلٌّ من الأستاذ الدكتور الرحيلي والدكتور فلاح العتيبي، إذ يرى أ.د. الرحيلي أن "الأدب الرقمي مرحلة جديدة تصحبها تغيرات عديدة قد تصل بعضها إلى درجة الخطورة،" ويعني "بالخطورة عدم حفظ الحقوق وسهولة القرصنة إضافة إلى احتمال ضياع المعلومات بسبب فقدان منصة من المنصات لكامل معلوماتها أو إغلاقها لسبب ما" ويؤكد أن "كل ذلك من الاحتمالات، لكن يجب ألا يدفعنا ذلك للوقوف ضد هذا الاتجاه المتجدد الذي لن يتوقف مهما أبدينا من اعتراضات، لا لشيء سوى أنه من طبيعة العصر الذي نعيشه حاليًا والقائم على الرقمية." من جانبه يرى د. فلاح العتيبي أن "منافذ الإعلام الجديد سلاح ذو حدين؛ لأنها سهَّلت على المبدعين سهولة النشر، وسهَّلت على المتلقين الوصول السريع إلى تلك الإبداعات والتفاعل معها، ومن جانب آخر سهَّلت على المنتحلين الوصول إلى مبتغاهم؛ إذ في تداول الأبيات الشعرية بكثرة وسرعة على منصة تويتر مثلًا ما يصعب نسبتها لقائلها الأساسي مع الأيام" ومن هنا يحضر الانتحال ولو بصفة غير مباشرة، لكن هذا لا يعني أن يتوقف هذا الاتجاه التجديدي".
أما د. طنف العتيبي فيرى من زاوية أخرى أن "الحقوق الفكرية ستبقى وسيحفظ النص الأدبي لصاحبه؛ لأن التقنية أيضًا لديها القدرة على ذلك، ولأن "الكاتب المبدع [رقميًّا] لم يعد هو الذي يتبنى الرؤية الأدبية أو الإبداعية التي هي موضع التعبير في الورقي، وإنما صار المجال مفتوحًا للمتلقين جميعهم مع النص؛ لتقديم وجهات نظرهم الخاصة وتعدد زوايا النظر، وذلك في حال أقررنا بأن الأدب الرقمي له خصائص تمثله ويمثلها من قبيل الخاصية الرقمية والخاصية الافتراضية وخاصية البنية المتفرعة؛ فإن هذا الأمر سيجعل النص الرقمي قابلًا للتغير ونحوه، ذلك أنه ذو إمكانات متعددة ومتاحة لعملية التلقي في إدراك النص، وإذا نظرنا في الرواية الرقمية أو القصيدة الرقمية مثلًا وجدنا أنها تضم أنساقًا سردية أو صورًا أدبية كثيرة، وكل قارئ يجد نفسه مشدودًا إلى نسق أو صورة مخصوصة، من حيث توجهه الفكري والأدبي؛ فهو يستعين بعناصر غير نصية طي النص، كالصور والرسومات والأصوات التي تمكنه من إضاءة تفاصيل متعددة في المسار الحدثي وتداعيات المضمون. ومن هنا قد تعود الرؤى الأدبية بحكم انفتاح النص على آفاق متعددة".
ولئن كانت هناك بعض المخاطر المحتملة في الفضاء الإلكتروني الذي يحيط بهذا الأدب، إلا أن الآراء هنا تؤيد استمرارية هذا الاتجاه الأدبي المتجدد في عصرنا الرقمي الذي يحظى فيه الإبداع الإنساني بالرعاية والاهتمام، وهو ما يمكن تلمسه في الجهود الحثيثة التي تبذلها الهيئات والمؤسسات، حيث ترى أ.د. السويلم أن "حقوق الملكية الفكرية للأعمال الرقمية مكفولة الآن بأنظمة تشريعية تحد من الانتحال، والطريقة الآمنة هي نشرها في مواقع موثوقة كالمدونات الخاصة للأدباء أو مواقع أدبية رسمية، لضمان استمرارها"، ويؤيدها في ذلك د. اليتيمي إذ يرى أن "فرص حماية الحقوق الفكرية قد تتهيأ من خلال الهيئات والمؤسسات المعنية بالملكية الفكرية في الوطن العربي -كالهيئة السعودية للملكية الفكرية-، وربطها بالأنظمة المتعلقة بالمحظورات الإلكترونية؛ في محاولة لسد إحدى الثغرات التي يعاني منها المؤلف." ويمثل أ.د. الرحيلي على هذا الحراك الفاعل الذي يحفظ للمؤلف الرقمي حقوقه ويجنبه كثيرًا من المعاناة، قائلًا: "حضرت اجتماعًا طموحًا جدًا في نادي جدة الأدبي من ضمن اجتماعات "لجنة حفظ النص الأدبي الرقمي" تقوم فكرة هذه اللجنة على حفظ النصوص الأدبية في مواقع التواصل الاجتماعي من الضياع مع نسبتها لأصحابها وحفظ صورة النشر كما هي في المنصة، وهذا نشاط أدبي رقمي يسعى إلى حفظه للأجيال القادمة".
ورغم كل ما يشهده هذا الاتجاه التجديدي من عوائق رقمية إن كانت على المستوى التأصيلي للمفهوم أو حقوق التأليف والنشر، إلا أن للرقمنة دور مهم في ذيوع النصوص وانتشارها جغرافيًّا، إذ ترى أ.د. السويلم أن "الرقمنة تسهم في ذيوع وانتشار النص، لكنها ليست حافزًا للإبداع، ومع التسليم بقيمتها في انتشاره جغرافيا" ومع ذلك لا تغفل أ.د. السويلم "تأثيرها السلبي فكلُّ الأبيات سارت بها الركبان، فالفضاء المفتوح غيّب الجودة." ومعها يتفق د. فلاح العتيبي إذ يقول: "مهما يكن فإن وسائل التقنية الحديثة ساعدت بشكل كبير على نشر الفكر والإبداع الإنساني بأشكاله كافة، ومنها الأدب. ويذكر بأنه مع ذلك كله "يجب على الدارسين التفريق بين الجنس الأدبي والوسيلة".
ولا يبتعد عنهما كل من أ.د. الرحيلي ود. اليتيمي، حيث يرى أ.د. الرحيلي أن "الرقمية نوع من الترف؛ ذلك أنها توفر الجهد والوقت وحينئذ قد تكون عاملًا محفزًا للكتابة الإبداعية، الكاتب لا يحتاج قلمًا ولا دفترًا، ويمكنه أن يستعين بعشرات التطبيقات ويتخير أحدها في حاسوبه أو هاتفه النقال أو جهازه اللوحي، يستطيع أن يرفق موسيقا موازية لنصه الأدبي، أو يطلع على مئات الصور الموجودة في الشبكة العنكبوتية. وعلاوة على هذا كله، بعض المنصات كفيسبوك وتويتر مثلًا أصبحت مستودعًا لنصوص الكتاب المبدعين، حيث يجعلون خيار المشاهدة محصورًا عليهم هم وحدهم حتى يروا الوقت المناسب لنشرها إلى الأصدقاء والمتابعين عامة، مما يعني مزيدًا من الخيارات المريحة للكاتب الإبداعي." وهو ما يراه د. اليتيمي؛ إذ يقول: "تشكل الرقمية محفزًا للمبدع من جهة؛ بما تحمله من خصائص وعناصر تحقق تفاعلًا واسعًا بين الأديب والمتلقي، وتضمن تداول إبداعه لدى شريحة واسعة من المهتمين، متجاوزًا بذلك حدود الزمان والمكان. غير أنه يشدد على أنها "في الوقت ذاته قد تشكل عبئًا على المبدع؛ لارتباط النص الأدبي بعناصر فنية أو تقنية تبطئ من إنجاز العمل الأدبي، وتضعه داخل قوالب رقمية تتطلب إحداث تناغم وانسجام ليظهر النص بصورة مثلى، تعزز الجوانب الجمالية المؤثرة في بناء النص الأدبي".
وهو ما تؤيده أيضًا د. العرضاوي إذ ترى أنه: "لا يوجد شيء يمكنه أن يحدّ من الإبداع؛ وما فعلته الرقمية أنّها قدّمت مائزة الانتشار والعالمية للإبداع والأدب والفن، وقطعت الطريق أمام الحدود والتأشيرات والفسح القانوني الذي تختلف سياسته من مكان لآخر، وهذا أمر مهم، جعل التواصل الإبداعي البشري في أعلى حالاته". غير أنها ترى أن التقنية "في الوقت نفسه، سمحت لمدعي الأدب والإبداع بالظهور، وهو ما أثّر في الذائقة الأدبية والنقدية، فالمتلقي اليوم -وبفضل التقنية- يتعاطى أدب المبدعين الكبار والفنانين العباقرة، وفي الوقت ذاته يستمع إلى المتردية والنطيحة، ويشاهد "مجموعة من التافهين" الذين يصفّق لهم من يصفّق، وهذا ما يوقع على المتلقي مسؤولية كبيرة في التمييز بين الإبداع والتفاهة الطافحة." وتختم د. العرضاوي مؤكدة بقولها: "نعم، اليوم توجد سيولة فائضة من الأدب والإبداع، لكنها ليست بذات الجودة أو حتى الوجود، وهو تحدٍّ كبير أمام صمود الثقافة الإنسانية القادرة على بناء الحضارات." أما د. طنف العتيبي فيشدد في هذا السياق على ضرورة "أن نحدد خصائص للمبدع الرقمي أولًا، لأنه ليس من الأكيد أن كل من كتب نصًا رقميًا يمكن أن يندرج ضمن الأدب الرقمي؛ فهذا الأدب لا يختلف في الجودة عن الأدب الورقي، لأن الأصل في الإبداع هي الجودة، فنحن نعلم أن ثمة نصوصًا – حتى من التراث- لم تدخل ضمن الأدب، ربما لضعفها أو لأنها لا تحمل سمات الأدبية. ولذلك فإن الأدب الرقمي إذا كان منضبطًا بضوابط خاصة، فستكون غزارة الإبداع مقبولة وربما تدفع الرقمنة إلى ذلك".
Comentarios