خالد الرفاعي

-١-
يثير وصف الأدب بـــ(الخليجي) المشكلات نفسها التي تثيرها عادة عملية تقسيم الأدب وتصنيفه، والتي نبه عليها وناقشها كثيرٌ من الباحثين أواخر القرن الماضي.
وإضافة إلى تلك المشكلات، يثير مفهوم (الأدب الخليجي) - على وجه التحديد - حساسيةً خاصةً ذات طابع أيديولوجي، ناتجة - في الغالب - عن تحيز بعض النخب العربية ضد الثقافة الخليجية ومكوناتها؛ إذ يرون أنّ مفاهيم من مثل: (الثقافة الخليجية) و(الأدب الخليجي) لا تشفّ في حقيقة الأمر إلا عن الوجود السياسي وحركة المال والأعمال، ولاتعكس ثقافة ذات خصوصية في هذه المنطقة، فضلاً على أن تكون فاعلة ومنتجة.
هذه الإشارة في البدء للتذكير بأن التعقيد الذي يحيط بمفهوم الأدب الخليجي متصلٌ من جهة بالأدب وتقسيمه وتصنيفه (وهو جانب موضوعي بلا شك)، ومن جهة أخرى بالحساسية التي يثيرها وصف الثقافة بالخليجية أو الإقرار بالفعل الثقافي في دول الخليج، هذا يعني أنّ تقييم المفهوم يحتاج في التفاصيل إلى مناقشات أبعد من المفهوم ودلالاته.
ثمة نقطة أخرى لابد من الإشارة إليها أيضاً، هي أن محاولات تقسيم الأدب وتصنيفه وكذلك جملة المآخذ التي وُجّهت إليها، لم تتفق على أمرٍ مثل اتفاقها على حاجة الدراسات الأدبية والنقدية لعمليات التقسيم والتصنيف، وهذه الحقيقة إذا ما قُرِنَت بسابقتها تساعدنا على وضع مفهوم الأدب الخليجي حيث يجب أن يكون، بوصفه مفهوماً يعاني من المشكلات التي تعاني منها جميع المفاهيم المستخدمة في تمييز المدونة الأدبية أو تقسيمها أو تصنيفها، بما في ذلك مصطلح (الأدب العربي الحديث) نفسه، الذي اتسعت دائرة استعماله في أواخر القرن التاسع عشر وأغلب القرن العشرين، بينما ظلت دلالته مقصورة في التطبيقات على الأدب في مصر والشام والعراق، متجاهلةً الحركات الأدبية في باقي أجزاء العالم العربي.
لا أزعم هنا أن جميع الدول العربية كانت تتمتع بما تمتعت به مصر آنذاك على مستويات الفكر والأدب والفن، لكنني أشير إلى أن تهميش الحركات الأدبية في كثير من أجزاء العالم العربي لم يكن يعكس دائماً حقيقة المشهد الأدبي فيها، بقدر ما كان يعكس غفلة المنظومة النقدية الفاعلة آنذاك، أو استعلاءَها الثقافي على هذه المجتمعات وثقافتها، ولا أدل على ذلك من تصريح عباس محمود العقاد بتغير وجهة نظره حول الشعر في إقليم نجد بمجرد اطلاعه على المختارات التي تضمّنها كتاب (شعراء نجد المعاصرون) لعبدالله بن إدريس.
-٢-
أردتُ بالفقرة السابقة التمهيد لنقطة تسقط من حساباتنا عند مناقشة هذا المفهوم، هي أن استعمال مفهوم الأدب الخليجي في كثير من الدراسات يأتي بوصفه ردَّ فعلٍ على محاولات التهميش والنسيان والإقصاء التي مورست ضد الحركة الأدبية المتنامية في دول الخليج، وردَّ فعلٍ على استمرار هذا التحيز حتى بعد تحرك عجلة التنمية فيها، وظهور العوامل المحفزة لولادة فعل ثقافي يعكس تفاعل الإنسان الخليجي معها.
إن مفهوم الأدب الخليجي من هذه الزاوية يشبه الالتفات إلى تقسيم الأدب العربي الحديث بمعيار الدولة الوطنية الحديثة؛ فالغاية منهما واحدة تقريباً، هي مقاومة التحيز والتهمش والنسيان من قبل منظومة النقد الفاعلة خلال القرن الماضي، والعمل على تحقيق شيء من التوازن على المستوى النقدي.
في هذا السياق ينشط مفهوم الأدب الخليجي في كثير من الدراسات، فهو ليس أكثر من مفهوم إجرائي، غايته تخصيص الأدب في دول الخليج الستّ بالعناية والاهتمام؛ لإبرازه واكتشاف قيمته، تماماً كما هو الأمر مع مصطلح (الأدب النسائي)، الذي شاع في الدراسات النقدية العربية منذ أواخر القرن الماضي، وظهر بوضوح في الدراسات الأكاديمية الخليجية مع بدايات الألفية الجديدة، ولم يكن في غالب هذه الدراسات أكثر من مفهوم إجرائي تصنيفي، يهدف إلى مواجهة التهميش الذي تعرض له أدب المرأة العربية على المستويين: الثقافي والنقدي.
في هذا المستوى تحديداً يمكن أن نتحدث عن نجاح مفهوم (الأدب الخليجي) في التأريخ للتجارب الأدبية الخليجية وإبرازها، والتنبيه على أهم المؤثرات في تشكيلها وتلقيها، وبفضل نشاط هذا المفهوم والمفاهيم المماثلة تشكلت لنا قاعدة مهمة، سدت الثغرة التي خلفها تحيز النقد أو قصوره.
-٣-
إذا تجاوزنا مفهوم الأدب الخليجي بصورته الإجرائية – المشار إليها في الفقرة السابقة - وتعاملنا معه من زاوية ثقافية ونقدية موضوعية، فبلا شك سنجد أنفسنا أمام عدد من المآخذ، أهمها:
التعدد والتنوّع البيئي الذي تتمتع به دول الخليج، وهو ذو أثر مهم في التعدد الثقافي مع الإقرار بوجود المشترك، ويمكن أن نلمس الأثر الكبير لهذا العامل إذا درسنا الثقافة في الحجاز مع الثقافة في الكويت أو البحرين بمنهجية تقرُّ ضمناً على الأقل بأنهما كلٌّ واحد.
التفاوت في العوامل المؤثرة في البنية الثقافية (مثال: التاريخ الاستعماري، الطفرة الاقتصادية، البعد الديني، الانفتاح الاجتماعي.. إلخ).
استبعاد مجتمعات عربية مطلة على الخليج لعدم عضويتها في مجلس التعاون الخليجي، وهنا يظهر بوضوح انحياز المفهوم لعاملٍ يقع خارج التجربة الثقافية والأدبية (عامل سياسي)، على حساب عوامل داخلية متصلة بالتجربة (المشترك الثقافي بين المجتمعات في هذه المنطقة).
هذه الملحوظات تجعل مفهوم الأدب الخليجي غير مهيّأ بما يكفي لخوض دراسات ثقافية ونقدية متماسكة من الناحية المنهجية، ومنسجمة مع التجربة الأدبية بعيداً عن العوامل الخارجية التي يمكن الاعتراف بتأثيرها، لكن دون التأطر بها على حساب النص ومحمولاته الفكرية والثقافية والجمالية.
ولأن مفهوم الأدب الخليجي سيظل عالقاً في تبعات استعماله الإجرائي على مدى عقود مضت، ومحملاً بتبعات الجو العام للدراسات النقدية الأدبية في دول الخليج، التي استهلكت – وما زالت تستهلك - وقتاً طويلاً وجهداً كبيراً في المستوى المسحي (الرصد، التأريخ، التصنيف، دراسة مدونات واسعة)، فإنني أميل إلى فكرة الناقد حسين بافقيه باستخدام (الأدب في الخليج) بدلاً من (الأدب الخليجي)؛ لأنه ينقلنا من الوصف إلى الظرف، وهو انتقال مهم ينسجم مع الطبيعة الإجرائية الشائعة لهذا المفهوم، ويحقق توقعات المتلقي أيضاً، هذا مع قناعتي بأنه لم يعد ثمة مسوغ أصلاً لتخصيص الأدب في دول الخليج بدراسة واحدة تهدف فقط إلى التأريخ أو الإشهار، فنحن اليوم في موقع آخر مختلف تماماً عن موقعنا في منتصف القرن الماضي، والحاجة اليوم ملحة لدراسات معمّقة، تبحث في منطلقات الإبداع وأدواته وغاياته، وفي العلاقات العميقة بين التجارب الأدبية في البيئة الواحدة.
هيئة التحرير
رئيس التحرير
د. إبراهيم الفريح
مديرة التحرير
أ. سمر المزيد
أعضاء هيئة التحرير
د. إبراهيم المرحبي | د. رانية العرضاوي | د. سماهر الضامن | أ. علي المجنوني
الهيئة الاستشارية
أ. د. سعد البازعي | د. هيفاء الفيصل | د. حاتم الزهراني | د. أحمد العطوي
تصميم ودعم تقني
أ. إبراهيم الثاني
للتواصل والمساهمة في النشرة
syaq@scl.sa
Comments