مفاتيح خزائن السّرد: مدوّنة المعتمد الأدبي والتّحليل الصِّنفي في السّرد العربي القديم
سعيد الغانمي، دار الرافدين- بغداد، ٢٠٢١، ٤٧٥ صفحة
د. عبد الله الرميحي*
ينتمي هذا الكتاب إلى نمط مختلف عن الكتابة الأكاديمية المعهودة، وهذا هو دأب الكاتب العراقي سعيد الغانمي في كثير من مؤلفاته، وفي حين أنّ هذه الملحوظة لا تشير إلى أيّة حمولة سلبيّة يمكن أن يتصف بها هذا النمط من الكتابة، فإنّها توضِّح الطريقة التي اختطّها الغانمي في المعالجة الموسوعيّة المنفتحة على تراث الأمم والحضارات المتعاقبة، وهو المجال الأثير الذي ميّز كتاباته باتّساع آفاق معالجتها وطابعها المقارن.
ففي كتابه مفاتيح خزائن السّرد الذي جاء في مقدمة وعشرة فصول، مهّد في الفصل الأول منها لبقيّة الفصول، وتحدّث فيه عن خلاصة نظريّة (الصِّنف) و(المعتمد الأدبي)، وبيّن أنّ هذين الرّكنين هما عماد المعالجة، وأعقب ذلك بفصول منجّمة لملاحقة أصناف السّرد العربي القديم، وهي تباعًا الحكاية البطوليّة، والسرد التاريخي، وحكاية الرؤيا، وحكاية الحيوان، والسيرة الشعبيّة، والوصيّة والمَثَل والدعاء، والمقامة، والرواية العربيّة القديمة، والسرد المترجم.
ولأجل توضيح منهجه في الفصول التي خصّصها لدراسة أصناف السّرد العربي القديم ابتداء من الفصل الثاني حتى العاشر، فإنّه يمكن القول إن إستراتيجيته المتّبعة تتمثّل في الاستعراض التّاريخي للصنف وفق رؤية مرنة في تتبّع انتسابه للأمم والثقافات، ثم الوصول إلى حيّز الثقافة العربية ووصف أهم النصوص والمدونات التي يمكن أن تندرج تحت الصنف، مع معالجة وصفيّة تحاول أن تُقيم أسباب الانتساب وتدعمها بالأدلة التي أراد لها أن تكون لغويّة شكليّة، ومع ذلك فإنّ استيفاء هذا الشرط جاء متفاوتًا، وهو وإن ظهر في صنف المقامة المفصحة عن شكلها اللّغوي وتداخل الشعري مع النثري فيها، فإنّ الأمر لم يكن بهذه السهولة في الأصناف الأخرى.
ولتبيين ذلك فإنّ مقولة الصِّنف التي تمثِّل الركن النظري الأول عنده تقوم على أمرين باتّكاء على بعض المنظّرين، هما البحث عن خصائص شكليّة وتقاليد مميّزة للكتابة من ناحية، والبحث عن استمراريّة النصوص من ناحية أخرى. ولقد كان الرهان الذي أورده الغانمي في مقدمته لهذا الكتاب رهانًا صعبًا، حين أراد أن يكون هذا الكتاب استطلاعًا لأصناف السّرد التي يمكن أن تُستظهَر من مدوّنات التّراث العربي القديم، مع وعد بمعالجة أجناسيّة شكليّة تتميّز فيها هذه الأصناف بعضها من بعض، ولا شكّ بأنّ هذه المحاولة وإن قدّمت بعض ما هو طريف، إلا أنّ النِّصال قد تكسّرت فيها على النِّصال، ووقع الحافر فيها على الحافر.
ولتبيين سبيل هذا المأخذ، فإنّي أشير إلى الملحوظة التي ساقها بأسلوب تعميميّ لا يمكن أن يُتّفق معه في حكمها، عندما قال عن السرد العربيّ القديم وتصنيفه: "وهو موضوع لم يُبحَث سابقًا، وفيه فقر نظريّ فاضح في الكتب المكرّسة لنظريّة الأدب في الثقافة العربية". ولا شكّ بأنّ ما قاله مفتقر للدقة؛ فالدراسات الأجناسية التي حفلت بها الثقافة العربيّة على الأقل منذ الثمانينيات الميلادية من القرن العشرين تمثل مقدمة لا يمكن التقليل منها لمتتبع خريطة السرد العربي القديم وتشكلاته الأجناسيّة على المستوى النظري والتطبيقي والتأريخي، وقد ظهر ذلك في أعمال مجموعة من الأكاديميين كرشيد يحياوي، وعبدالعزيز شبيل، وفرج بن رمضان، وبسمة عروس، ومحسن جاسم الموسوي، وعبد الفتاح كيليطو، و عبد الله إبراهيم، وغيرهم.
وبغض النظر عن الاتفاق مع الغانمي في مصطلح (الصّنف) من عدمه، لأنّ المراجعة لا تحتمل التفصيل في هذه المسألة، فإنّ الانتقاد الذي أبداه الغانمي للدراسات العربية في مجال تصنيف السرد العربي القديم لم تظهر بوادر استدراكه في كتابه، كما أنّ ابتداءه من نقطة صفريّة في معالجة الأصناف نظريًّا كما هو الحال مع الوصيّة على سبيل المثال، وتجاوز ما كُتِب من الباحثين في التنظير الأجناسي لها، واتكاءه في بعض الأحيان في التأصيل النظري للأصناف على أسماء محدودة مثل ويليك وباختين وفراي، كل هذا الأمر آذن بتقلّص النتائج المتطلّع إليها، وبذلك فإنّ الرهان الذي ذكره الكاتب في مقدمته في تصنيف هذه النصوص والمدونات من ناحية اللغة والبنية الشكلية بدا وكأنّه لم يتحقق في كثير من المواضع، حيث غلبت العناية بالثيمات الموضوعية وتتبع أحداث السرد دونما إحاطة بالمفاصل الشكليّة التي يمكن أن تُقِيم أَود التصنيف.
وأما الركن النظري الثاني عنده وهو المعتمد الأدبي فهو مجموع النصوص التي حظيت بإجماع السلطات الثقافية، وهو يقوم على خطوات في اختيار النصوص وتثبيتها ونقلها واتخاذها معيارًا لتوليد نصوص لاحقة، وبذلك ينهض المعتمد باتفاق النخب الأدبيّة، واصطفاء لغته المعياريّة، وتشكيله للذاكرة الثقافية، وقد يتولد من هذا الأمر احتكاك معتمدين، كما هو الحال بين ما يمكن أن يُنسَب للأدب الرسمي كالمقامة مثلًا التي استطاعت بواسطة لغتها المعياريّة أن تكون في مستوى المعتمد الأدبي، والأدب غير الرسمي أو الشعبي الذي ينافح عن وجوده وبلاغته، كما هو الأمر في الحكاية البطوليّة والسيرة الشعبية، وقد نجح الغانمي إلى حد كبير في معالجة قضيّة المعتمد الأدبي وعلاقته بتلك الأصناف السرديّة، وإن كان مسبوقًا بجهود بحثيّة في تعقب جدليّة الأصناف الأدبيّة والاعتراف الاجتماعي بها.
ولعلّ ما يمكن أن يستخلصه القارئ في مقابل ما سبق من ممهدات واشتراطات أثبتها الكاتب، هو استفاضته في العرض التاريخي لكل صنف، واستغراقه في التتبع الفيلولوجي للمصادر والمخطوطات ونقاش الأصول في كثير من المواضع؛ لذا كان أقرب ما يمكن أن توصف به معالجته بأنّها مدخل موسوعي ممهدّ لدراسة أشكال وأجناس السرد في التراث العربي القديم.
وعمومًا، فإنّ ما يحسب للغانمي في هذا العمل الموسوعي شيء كثير، منها التعقب التأريخي للصِّنف السردي عند الأمم والحضارات السابقة باختلافها، والانفتاح في البحث عن الأصول والمتون السردية في مستودع التراث، وسعة الأفق والرحابة في التعاطي مع حدود التصنيف والتجنيس، كما قال:"نحن مدعوون إلى التعامل مع الصِّنف بشيء من المرونة"، وكذلك الجهد الذي ليس باليسير في التتبع الفيلولوجي للأصول والمصادر، ومحاولة النّأي كما ذكر في مقدمته عن أيّ مواقف أيديولوجيّة مسبقة في الحكم على ذلك التراث، كما أنّ هناك آراء طريفة وجريئة في عدّة مواضع، كما هو الحال في بحث إمكانيّة إيجاد مدونات ونصوص يمكن أن تكون سلفًا للرواية الحديثة كـ "رسالة ثأر المختار" لأبي مخنف، و"الرسالة البغداديّة" المنسوبة للتوحيدي.
*أستاذ البلاغة والدراسات الخطابية المساعد بقسم اللغة العربية وآدابها بجامعة الملك سعود
Comments