top of page
  • سياق

سجال: وقفات نقدية في محطات السيرة الذاتية




لم تكن الذات الإنسانية يومًا منعزلة عن واقعها، منغلقة على نفسها؛ بل منفتحة ومتشكلة عبر مجموعة من المقومات الفطرية التي تكتسبها في محيطها. وفي الأدب يأتي التعبير عنها في سياق حياتي يبوح فيه كتّاب السيرة عادة عن مكنون وجدانهم وتجاربهم الخاصة واعترافاتهم التي تنقل إلى القارئ في سياق عام أقرب إلى النظرة الكونية للعالم؛ ما يجعل مكتوبهم يصبح -بالتالي- فنًّا ملامسًا للنفس الإنسانية وتطلعاتها، ومن هنا كان أدب السيرة الذاتية الوعاء الأكثر مرونة من بين الأنواع الأدبية الأخرى لاحتضان هذا اللون من الكتابات الوجدانية، غير أن ما يكتب تحت عنوان: "أدب السيرة الذاتية" ما زال محل تساؤل ونزاع للآراء النقدية المختلفة؛ فهناك من يرى أن كثيرًا من هذا المكتوب لا علاقة له بالسيرة، بل هو سرد لأحداث شخصية خاصة تدخل في تاريخية فردية للذات الساردة قد لا تضيف للقارئ شيئًا جديدًا عن الشخصية أو عن مواقفها وتطلعاتها للمستقبل أو عن العوالم الأخرى، ومن هنا تتولد الأسئلة حيال الكاتب المخول لكتابة السيرة الذاتية، وعن علاقته بالمجتمع الذي يعيش فيه، وقضية الصدق والاختلاق في المكتوب السيرذاتي، وكذلك إشكالية التعالق بين السيرة الذاتية والأنواع الأدبية الأخرى، كاليوميات والمذكرات وغيرهما، ويأتي سجال هذا العدد محاولًا -من خلال آراء مجموعة من المهتمين والمهتمات بأدب السيرة الذاتية في المملكة العربية السعودية- تسليط الضوء على كل هذه التساؤلات للوصول إلى إجابات توقظ ذهن المتلقي لمزيد من البحث والتقصي حول هذا الفن الأدبي المتنامي.




في سياق وصف علاقة كاتب السيرة الذاتية بمجتمعه الذي يعيش فيه، فيرى المتخصص في أدب السيرة الذاتية الدكتور أحمد هروبي أن "الذات الإنسانية تتشكل عبر مجموعة من المقومات، الفطرية والمكتسبة، والمجتمع جزء لا يتجزأ عن الذات الساردة، فالذات حين تستعيد سيرتها عبر الخطاب المحكي تجعل من المجتمع ركيزة في خطابها السيرذاتي، وأوضح قائلًا: "لا يمكن أن نتخيل سردًا ذاتيًا دون حضور المجتمع؛ فالكاتب السيري المبدع هو من يستطيع استدعاء المجتمع، وملامحه، وأنماط العيش فيه. الكاتب حين يكتب يلمح للمجتمع، وقد تمثل مادته المكتوبة لاحقًا مادة كاشفة عن الأبعاد الأنثروبولوجية؛ التي تعد مادة تحفظ تاريخ المجتمع، وترصد تحولاته. ويؤكد د. هروبي بقوله: "إن علاقة الكاتب السيري بالمجتمع حال الكتابة يجب ألا تصل إلى الكتابة التاريخية المخلة بشروط الجنس، وألا يجعل من نفسه فقط شاهدًا على المجتمع، أو ممثلًا وحيدًا للجيل!!!"




أما أستاذة السرديات المعاصرة بجامعة أم القرى الدكتورة كوثر القاضي فترى أن العلاقة بين كاتب السيرة ومجتمعه في العالم العربي لا يمكن تحديدها، وترجع ذلك إلى عدم وجود كتابات سيرذاتية بالمفهوم الدقيق للسيرة الذاتية، وتؤكد ذلك بقولها: "أكاد أجزم بعدم وجود سيرة ذاتية حقيقية في العالم العربي، بداية من "الأيام" لطه حسين، حتى آخر سيرة ذاتية في الأدب العربي والسعودي اليوم، فهي بالفعل شذرات متفرقة، وأطياف مختلفة، ولا يمكن أن نغفل هنا ما يُعرف بثقافة القطيع؛ فانصهار شخصية الفرد ضمن جماعة تعطيه القوة وتُشعره بالأمان من جهة، لكن من جهة أخرى سيفقد صفاته الشخصية التي تميزه عن الآخرين." وبينت أ.د. القاضي ذلك بقولها: "لكي تصبح كتابة السيرة الذاتية ممكنة يجب أن تتوافر جملة من المعطيات السياسية والاجتماعية والدينية والثقافية في المجتمع الذي يعيش فيه الكاتب، وإن كان يبدو أن الكتابة فردية خاصة في هذا النوع من الأدب الذاتي، لكن محاصرة الكاتب بعيون الرقباء، وتفكيره الدائم في مقص الرقابة الاجتماعية المسلط على رقبته دائمًا، يجعل مما يكتب ناقصًا ومشوهًا وزائفًا، وإن ذلك الكشف الذي تستلزمه كتابة السيرة الذاتية الأدبية، وتلك الجرأة في الكتابة عن الحياة الخاصة للكاتب وتعرية تلك المشاعر والعيوب والنواقص...إلخ أمر صعب جدًا لكنه -برأيها- -وفي درجات ظهوره قلة وكثرة- هو ما يجب أن يميز السيرة الذاتية الحقيقية".


من جهتها ترى أستاذة الأدب والنقد المساعد بجامعة تبوك الدكتورة عائشة حكمي أن "السيرة الذاتية من الفنون الأدبية التي أخذت في الاتساع في السنوات الأخيرة ولو رغبنا في تتبع موضوعاتها وتدوينات كتابها في كل الآداب العالمية سنحتاج إلى خريطة طريق لكثرتها وتنوعها، وتزايد إقبال التلقي، وهي نص ارتدادي يستعيد الكاتب بقلمه الماضي بالتفاصيل كلها التي تعجز الكتابات الأخرى عن رصدها، وتحتفي بالذات الخاصة بصورة مستقلة، وبعض السير الذاتية تقدم الذات من خلال المكان أو المحيط، فهي -من وجهة نظرها- تاريخ ذات ومجتمع وعصر، يسجل محتوى يحدث تأثيرًا في القادم.." ومن هنا تؤكد على "عمق العلاقة بين السيرة الذاتية ومجتمعها"، وتدلل د. الحكمي على متانة هذه العلاقة بينهما بحرص "كاتبها على الصدق في تسجيل الوقائع عن مجتمعه أو الآخرين بحيث لا يضر تاريخ مجتمعه أو تزييفه أو وضع الشخصيات التي شاركته الحياة في مواقف أو سلوكياته بصفات تؤذيهم أو تشوه سمعتهم..".

وتكمل د. الحكمي حديثها عن عمق العلاقة بين الكاتب ومجتمعه بقولها: "إن أي محتوى معرفي هو من المجتمع وإليه، وأي منتج للمعرفة هو ابن بيئته، أي نتاج بشري ونتاج مادي في حالة أخذ وعطاء متداول، وأي محتوى يكتبه كاتب الأدب هو خلاصة معادلة التأثير والتأثر، فهو يشارك الناس أحوالهم في السعادة والبؤس في الظلم والعدل ، يكرس مشاعر الانتماء لعقيدته ومبادئه ووطنه في نتاجه ثم ينقلها إلى المتلقي، فالكاتب لسان حال مجتمعه يبحث في كل أمر يحقق جودة الحياة،" ووفق ذلك تصف د. الحكمي ما بينهما بعلاقة الجزء بالكل، فالسيرة شاهدة على حياة خاصة وعامة فإذا تحقق فيها الصدق والإقناع تصبح وثيقة حياة شاملة مثل: (البئر الأولى، الأيام) أو اختيار مرحلة من الحياة مثل الطفولة أو مرحلة الكهولة، أو تختص بجانب من حياة كاتبها مثل رحلتها مع الكتاب أو القراءة أو الكتابة أو مرحلة تحول فكري مر بها السير في ذلك لا حصر لها، مثل ذلك سيرة هنري ميلر (الكتب في حياتي) سيرة أخرى (أصبحت روائيًا) و (ما وراء الكتابة)، وغيرها، التي قدم فيها الكتّاب خلاصة حيوات ملهمة لأي مجتمع في أي مجال حياتي، وتؤكد في ختام حديثها هنا على "أن السيرة الذاتية تحتاج احتفاء وشجاعة لدى كل مثقف كي يقدم تجربته ليس من أجل إحياء جهوده وتخليد رحلته وإنما ليقدم تجربة مختلفة ملهمة تنعكس إيجابًا في أي مجتمع."



من جانبه يؤكد أستاذ الأدب والنقد الحديث المشارك بجامعة حائل الدكتور جزاع الشمري على "أن كاتب السيرة الذاتية لا يعيش منفصلًا عن واقعه ومجتمعه، بل هو جزء لا ينفصل ومكون أساس في المجتمع بصورة عامة فضلًا عن أن يكون كاتبًا وأديبًا يكتب سيرته وحياته، فحياة الأديب هي مركزية السيرة الذاتية وهي موضوعها في استعادة تاريخ الأنا الشخصي، وبالتالي يتناول تاريخه الجمعي والإنساني من خلال علاقته بالمجتمع الذي يحيط به والأحداث التي يرصدها والشخصيات التي يتناولها فهي حتما ضمن إطار مجتمعه إلا أنه يستأثر دور البطولة فيها."




وفي السياق نفسه قال المتخصص في أدب السيرة الذاتية الدكتور معيض القرني: "ربما يكون الحديث عن جنس السيرة الذاتية من أكثر الأحاديث التباسًا؛ لأسباب عدة، ولعلَّ من أهمها: أن هذا الجنس الأدبي مع أهميته لم يكن معروفًا في الأدب العربي القديم بشكله الذي امتاز به حين استقل بخصائصه الأجناسية في العصر الحديث، وإن كانت هناك بعض اللمحات والشذرات التي تؤكد على عدم خلو الأدب العربي القديم منه، ولكنها تظلُّ محاولات فردية لم تنل شهرة الأجناس المجايلة في عصرها، وربما كانت النظرة إليها إلى وقت قريب نظرة ارتياب في أدبيتها، ثم لما جاءت الثورة في كتابة السيرة الذاتية أصبح الكل يكتب في هذا الجنس دون مراعاة لأدبياته واشتراطاته الأجناسية."

وأشار د. القرني إلى أن "العلاقة بين كاتب السيرة الذاتية والمجتمع الذي يعيش فيه علاقة وجودية، وهي علاقة اتصال وانفصال في آن واحد؛ فالذات التي تكتب لا يتحقق وجودها إلا بالمجتمع، ومواقفها ومكاشفاتها، -وبالتالي- لا يمكن أن تنفصل عن سياقها الاجتماعي الذي يؤطر حدودها، ويحدث أثرها الوجداني الذي يستفز الكتابة،" ويستكمل د. القرني مشدِّدًا: "إن أدبية جنس السيرة الذاتية تفرض على الذات كتابة ذاتها كتابةً خاصةً، وهذه من إحدى (مآزق كتابة السيرة الذاتية)، وكأن الذات تعي فردانيتها التي شكلتها وجعلتها خاصة في جوانب من سيرتها، وصورة للمجتمع تتماهى معه، وتنحني لشروطه في جوانب أخرى من حياتها التي تسردها، بل ومن حدود حريتها في الكتابة".



وقد تباينت آراء النقاد في قضية الصدق والاختلاق في المكتوب السيرذاتي، حيث تؤكد أ.د. القاضي -بناء على رأيها فيما سبق- عدم "وجود صدق كامل في السيرة الذاتية الأدبية، ولكونها أدبية فهناك قدر لا بأس به من الخيال أولًا. ويتبادر إلى ذهن المتلقي غالبًا وهو يقرأ سيرة طفولة: ما الذي يمكن أن يتذكره الشيخ من هذه الأعوام الأولى في حياته؟ وكيف سيستعيد الإحساس بها فيما لو تذكرها؟ والحقيقة هي أن السيرة –أي سيرة- تروي الماضي بفكر الحاضر"، وتكمل: "ولا أعتقد أن هناك من يذكر كيف جاء إلى الحياة، وكيف كانت تفاصيل حياته في أعوامه الأولى، هناك مواقف مؤثرة -لا شك-، لكن لا يمكن تذكرها كلها بتفاصيلها، وقد تكون ذكريات الحارة أو القرية من أكثر الذكريات التي ترسخ في ذاكرة الطفل لأسباب كثير لا تخفى".

وتابعت أ.د. القاضي حديثها مؤكدة غياب الصدق الكامل في الأعمال السيرذاتية، قائلة: "تعد دقة ذكريات الطفولة التي اُسترجعت في مرحلة البلوغ موضوع بحث ومناقشات مستفيضة. وتوجد خلافات حول صحة الذكريات المسترجعة، ويمكن استرجاع الذكريات الكاذبة. وقد تحدث أخطاء حتى مع استرجاع الذكريات الأصلية وذلك عندما يحاول الشخص البالغ استنتاج التفاصيل المفقودة للحدث، أو إذا كانت إشارات الإعطاء للاسترجاع ليست كافية." وتضيف أ.د. القاضي: "إن ذكريات الطفولة ليست ذكريات حقيقية على الأرجح؛ وكثير من هذه الذكريات لم تحدث في الواقع، وعندما يبحث الإنسان عن سرد كامل لحياته، فإنه لا بد أن يختلقَ بعض القصص ليملأ تلك الفراغات، ويرتق تلك الفجوات، التي سقطت ذكرياتها بمرور الزمن وتعاقب الأعوام." ومن هنا فإن "عدم قدرة المؤلف -أو عدم رغبته- في تذكر الذكريات بدقة في بعض هذه الحالات تؤدي إلى معلومات مضللة أو غير صحيحة. وقد أشار بعض علماء الاجتماع وعلماء النفس إلى أن السيرة الذاتية تقدم للمؤلف القدرة على إعادة اختراع التاريخ."

من جانبه يؤكد د. الشمري على "أنَّ الإطار الذي تستند عليه السيرة الذاتية في كتابتها هو (الصدق الفني)، وليس بالضرورة الصدق الواقعي كما يعتقد بعض القراء، فكاتب السيرة الذاتية يمزج بين الذاكرة بوصفها واقعًا مرجعيًّا للذات وبين الخيال،" ويبين ذلك بقوله: "إن كاتب السيرة الذاتية ينشئ نصه عبر الاشتغال المكثف على الذاكرة، وقد يعتريها "النسيان" أو التناسي في قصدية الكاتب، فيلجأ إلى الخيال الفني؛ لأن الخيال يتأسس على عناصر الواقع، فالعلاقة بين الواقع والخيال علاقة تكاملية لا قطيعة بينهما. فهما يشتركان في وقائع حياة الكاتب وذاكرته وما يمتلكه من تخييل، وهذا هو البعد الذي استعارته السيرة الذاتية من جنس الرواية، فالمتخيل موجود في السيرة الذاتية كما هو في الرواية، وإلا لأصبحت السيرة الذاتية مرآة لحياة كاتبها، وبالتالي تخرجها من البعد الفني وهذا ما نشاهده ونقرأه في بعض النصوص السيرية المطبوعة، فالمباشرة في السيرة الذاتية -بحسب اعتقاده- يخرجها من الفنية، فضلًا على أننا لم نعش تلك السيرة كما عاشها كاتبها."

وهو ما يؤكده أيضًا د. هروبي إذ يشير إلى "أن الحديث عن الصدق الأخلاقي في طبيعة الخطاب السيرذاتي أمر غير متحقق، لكن يمكن تحقق "الصدق الفني؛ فالأدب خطاب شفيف، لا يُعنى بتصوير الواقع كما هو، وإلا استحال السرد إلى خطاب تقريري ممل. فالكاتب السيري يتوخى الصدق، لكنه بحكم الأدبية يتجاوز استعادة الأحداث كما هي، فيطبعه بحسه الأدبي المرهف، لكنه في الوقت نفسه لا يخرج عن نقل الواقع." "إنه باختصار -من وجهة نظره- ينقل الواقع بشكل فني، ويمسك العصا من المنتصف، فلا سرد تقريري باهت، ولا تحليق منعتق عن اللحظة التاريخية المنصرمة. الكاتب السيري بوسعه توظيف الخيال، في مواطن لا تتعارض مع تاريخية الجنس السيري؛ لأن الانعتاق من الواقع، والتخييل المجنح من شأنه أن يخل بشروط جنس السيرة الذاتية، ومن شأنه كذلك أن يزعزع ثقة المتلقي في ذلك الخطاب التخييلي."

ومعهما يتفق د. القرني في أهمية المحافظة على عنصر الصدق الفني في المكتوب السيرذاتي، إذ يقول: "لعلَّ من أهم شروط كتابة الذات هو: المحافظة على الميثاق السير ذاتي الذي يحفظ لها بقاءها في منطقة التماس بين التأريخ للذات والأدب؛ فالتخلي عن الشرط التاريخي يخرج السيرة الذاتية من ميثاق الصدق، ومن مصطلح السيرة تحديدًا، والتخلي عن التخييل الذي هو عماد الأدب يحولها إلى وثيقة تاريخية، وبهذا تغدو العلاقة بين الواقع والمتخيل (علاقة مادة وتشكيل)؛ فالوقائع التي يتحدث عنها السير ذاتي يجب ألا تكون متخيلة، فيختار من سيرته أحداثًا ومواقف مرجعها الصدق والواقع، يرى أنها تستحق السرد؛ وذلك لقيمتها في تكوين الذات، وأهميتها للقارئ، ويكون مرجع الخيال فيها: الذاتية في تأثره وتقييمه الخاص، والنوستالجيا التي يسترجع بها تلك الأحداث."


وبدورها تقول د. الحكمي: "إن الصدق هو المسؤولية والأمانة ركيزة أي نص سيري من خلاله يتحقق انتماء السيرة إلى الواقع المعاش فتصبح مرآة حقيقية لمرحلة الكاتب وبيئته، بحيث لا يزيف الوقائع ويهدم شخصيته وثقافة مجتمعه، أي أن يعمل الكاتب على استعادة ما حدث في ماضيه بأمانة، وحين يكتب عن مرحلة حجبها النسيان، فإن عليه -من وجهة نظرها- أن يستعين بشخصيات شاركته الحدث نفسه؛ شخصيات لا تقبل الاجتهادات في المفاصل الأساسية ليتجنب التناقض والزيف". كما ترى د. الحكمي أن الاختلاق -في تفاصيل المكتوب السيرذاتي الجزئية- "هو لعبة الكاتب الفنية، في توظيفه للغة وتلوين الحدث بكثير من الإثارة والتشويق، أي أن يلجأ إلى السلاح الأدبي البليغ الذي يحرِّك مشاعر المتلقي للتفاعل معه، كما فعل طه حسين في أيامه التي تعد نموذجًا لتصوير أثر (العمى) في حياته في الأكل والشرب".


ونظرًا لأهمية الاعتداد بأدبيات واشتراطات الأجناس الأدبية المختلفة التي تميز كل منها عن الآخر، فإن أدبية السيرة الذاتية لها اشتراطاتها التي تبرر أهمية السؤال عن أهلية كتابتها لدى الكتاب، وفي هذا الجانب يقول د. القرني أنَّ ‏"الكتابة حقٌّ مشروع لكل أحد، لكن تداولية السيرة الذاتية -التي تحقق لها أثرها في كل أطراف التخاطب- تجعله يعتقد- أنَّ قارئ السيرة الذاتية قليلًا ما يغامر في قراءة سيرة لا يعرف مؤلفها، ولم يبلغ في حياته شأوًا يستحق أن يروى، لكنه في الوقت نفسه لا ينتظر قراءة ما يعرف، وفي أفق توقعه أن يجد في هذه السيرة شيئًا جديدًا سواءً من أحداث لم ترو، أو من تفسيراتٍ وتحليلاتٍ لكثير من مواقف الأديب واختياراته في حياته، أو وصف لتأثيرات بعض المضايق التي شكَّلت الذات، وكما أنَّ السيرة الذاتية سرد لقصة حياة فهي أيضًا تسويغ لمواقف، وكشف لجديد، ومواجهة صريحة مع الذات، فلا بد من وجود ما يستحق أن يروى، وأن يكون الكاتب من الشجاعة بدرجة تمكنه من الصدق والمكاشفة، هذا على التسليم بأنه أديبٌ متمكنٌ من أدواته الأدبية والتخييلية، التي تفيد القارئ وتمتعه في آن.

أما د. الحكمي فقد أشارت إلى أنَّ: "كتابة السيرة الذاتية تحتاج استعدادات عدة يتسلح بها كاتبها، وثقافة، وأدوات الكتابة، وحس فني وذوق أدبي، إضافة إلى استعداد نفسي، وقناعة، ورغبة، وإدراك لأهمية السيرة الذاتية في كل مجالات حياة أي مجتمع على الأعم، وعلى الأخص تجربته الإنسانية والثقافية وحرصه على تقديم تجربة نافعة للحاضر والمستقبل،" وتؤكد د. الحكمي على أهمية الاعتداد بأدبيات كتابة السيرة الذاتية قائلة: "وحين يقرر كاتبها الخوض فيها عليه أن يكتبها بنَفس الأديب بصفتها جنسًا أدبيًّا، حاله حال الرواية، والمسرحية، وغيرهما وأن يتقيد بكل ما قد يتطلبه الالتزام بالميثاق بين الكاتب و المتلقي". وتختم حديثها بالتأكيد على أن: "كتابة السيرة الذاتية حق لكل كاتب سواء أديب أو مثقف في أي مجال، فقد يكون عالم طب، أو عالم دين، أو عالم فضاء، أو عالم نفس، إلخ، أي كل من هو قادر على تقديم خبرته بشرط يقدم أدبًا مجوَّدًا يستحق التأثير والاستمرارية".

ويتفق معها في ذلك د. الشمري الذي يرى أنَّ "كل إنسان في هذا الكون عاش حياته بظروفها وتقلباتها وسرورها وحزنها وإمكاناتها، وبالتالي فهو مشروع كتابة سيرة طالما امتلك الأدوات والتقنيات الفنية التي تساعده على الكتابة وقدرته على اجتذاب القارئ -ووفق اعتقاده- فإنَّ كتابة السيرة الذاتية ليست محصورة فقط على الأديب، بل هي لعامة الكتّاب والمبدعين والنابهين في المجالات كافة، خاصة من كانت حياته مليئة بالأحداث والوقائع ومتغيرات الحياة ومنهم الأديب والناقد، خدم بها مجتمعه، أو عبر بها عن ذاته، فالأدب بصورته الكلية هو تعبير."

من جهته يؤكد د. هروبي أن الأمر في هذه المسألة "يظلُّ متعلقًا بالقدرة على الإبداع وفق شروط الجنس السيري؛ إذ لا تكمن القضية في القدرة على استعادة الأحداث المنصرمة، بل في إعادة تشكيلها ضمن شروط الجنس، مع تحقيق شروط الإبداع، المتمثل في شعرية الخطاب، وتوظيف اللغة الأدبية الساحرة، والقدرة على الاستعادة الجميلة، التي لا تكتفي فقط بسرد الحدث، بل تتجاوز ذلك إلى تأمله، وسبره، ومحاكمته، ونقده؛ كي نكون أمام خطاب ينطلق من الماضي، لا ليعود له، بل ليستشرف به المستقبل، وينير به الدرب للمتلقي؛ لأن من شأن استدعاء الأحداث وسردها دون إمعان البصر والبصيرة فيها، ودون استدعاء ما فيها من صراعات، أن يجعلها خطابًا باهتًا، ستصيب القارئ-حتمًا- بالملل، حين يغدو خطاب تلك السيرة خطابًا يخلو من الفكر، ومن النظر بعين الناقد البصير."

وبدورها تشير أ.د. القاضي هنا إلى أنَّ "الأديب قادر على الكتابة السيرذاتية، أما القدرة على البوح، والحاجة إلى إخراج ذلك الزخم من المشاعر والأسرار والأحداث والذكريات الحزينة أو السعيدة سيان، وإخراجها للقراء والوقوف بعيدًا لتلقي الصفعات أو لمصافحة نظرات الإعجاب أو الازدراء، فهذا أمرٌ يُتفاوت فيه، وفي ذلك يتفاوت البشر جميعًا."

وإذا كانت الأجناس الأدبية لا تخلو من إشكاليات سواء على مستوى المفهوم أو الخصائص الشكلية أو المضمونية، فإن جنس السيرة الذاتية يعد واحدًا من أكثرها إشكالية؛ لكونه من الأجناس الأدبية التي استقلت بخصائصها الأجناسية أخيرًا، إضافة إلى قدرته على استيعاب العديد من الأنواع الأدبية الأخرى؛ نظرًا لمرونته الشكلية والموضوعاتية.

وفي هذا يقول د. الشمري إن طرح التساؤل عنها يعد "الأكثر جدلية وصعوبة لما يتخلله من تداخلات أجناسية ذات صلة وثيقة بالسيرة الذاتية ومنها الذكريات والمذكرات واليوميات ومحكي الذات، ويمكن استقراء ذلك -بتوسع- من خلال الاطلاع على ما كتبه المنظرون والنقاد الغربيون والعرب الذين سبقونا إلى هذا المجال، ولعل أبرزهم فيليب لوجون، وجورج ماي، وجورج قوسدوروف، ويحيى عبد الدايم، وإحسان عباس، وتهاني عبد الفتاح، ومحمد الباردي وغيرهم الكثير." ويستكمل د. الشمري قائلًا: "إنَّ مفهوم السيرة الذاتية شكل قضية إشكالية كبيرة في النقد الأدبي الحديث، وهذا المصطلح لم يكن متبلورًا في النقد العربي مثلما كان عليه في النقد الغربي، فقد عرَّفها فيليب لوجون بأنها: "حكي استعادي نثري يقوم به شخص واقعي على وجوده الخاص وذلك عندما يركز على حياته الفردية وعلى تاريخ شخصيته بصفة خاصة"، ويضيف د. الشمري "لقد وردت عدة مفاهيم يمكن إيجازها على نحو ما ذكره مجدي وهبة وكامل المهندس في (معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب) بأنه: "سرد متواصل يكتبه شخص ما عن حياته الماضية"، وغيرها من المفاهيم التي تصب في بوتقة واحدة هي حياة الفرد وتاريخ حياة الشخصية بوعي وإدراك وقصدية من الكاتب مستعملاً فيها قدرته اللغوية في تدوينها. إنها سرد الحكي المنقضي في الزمان والمكان الماضي واستعادتها عبر الذاكرة بواسطة اللغة."


أما د. هروبي فيرجع "هذه الإشكالية إلى التداخل بين السيرة الذاتية وغيرها من الأنواع الأدبية الأخرى، مثل: المذكرات، واليوميات...إلخ؛ إذ لا يمكن بحال أن تتحرر السيرة الذاتية من تلك التعالقات، بل إن من مصلحتها أن تبقى على وفاق معها، فهي روافد لا غنى لجنس السيرة الذاتية عنها." ويضيف د. هروبي: "إنَّ انفتاح السيرة الذاتية على تلك الأنواع، وكذلك النظر لبعض الأجناس من حيث صلتها بالسيرة أمر فيه تنوع، ومحاولة فصل السيرة عن تلك الأنواع أمر في غاية الصعوبة، وهذا الأمر يشمل كذلك أدب الرحلة، ففيه من السرد ما يمثل مادة دسمة للسيرة الذاتية، بل إن بعض تلك الرحلات المكتوبة قد تغدو بشيء من التعديل سيرة ذاتية، أو لنقل مادة للسيرة الذاتية."

من جهتها ترى أ.د. القاضي "أنَّ تعريف أي فن أو نوع أدبي يختلف باختلاف التصورات له، وتعدّ السيرة الذاتية من أكثر أنواع السرد تعقيدًا؛ وذلك لتداخل أنواع أخرى قريبة ورافدة من روافد السيرة الذاتية، وهي: المذكرات واليوميات، وتهتم المذكرات بالتركيز على المشاعر الشخصية بشكل خاص، لكن السيرة الذاتية تكون أكثر عمومية، واليوميات تأملية غالبًا وتتحرك عبر سلسلة زمنية أصغر وأكثر تكثيفًا من السيرة، وبين السيرة والمذكرات واليوميات يكتب الأديب عن الذات في كلٍ. ولا نغفل كذلك تدخل التاريخ؛ فلدى بعض الكتاب شغفٌ بالتوثيق، فنقرأ في بعض كتب السيرة، تاريخ مرحلة وجيل، أو تاريخ مدينة أو قرية، فقد يختبئ كاتب السيرة أحيانًا وراء بعض مجايليه؛ ليبرر أو يعتذر عن فعلٍ أو قول، أو يستجدي العفو من جماعته أو قبيلته. وتؤكد أ.د. القاضي هنا على أنَّ "العَقد السيرذاتي بين الكاتب والقارئ يعدُّ أهم ما تتفرد به السيرة الذاتية."


‏ويؤكد د. القرني هذه الإشكالية، بقوله: إنَّ "تعريف السيرة الذاتية من أعقد الإشكاليات في هذا الجنس، وهو ما جعل كثيرًا من الأدباء يختلفون فيه، بل إن بعضهم ينصرف عن تحديده إلى تلمُّس تجلياته، وخصوصيته في السيرة الذاتية التي تشترك وتتداخل مع كثيرٍ من الأجناس القريبة منها، ولم يستقر لها إلى الآن تعريفًا شاملًا يُرضي المهتمين بها ويقنعهم،" ويستكمل د. القرني قوله: "إنَّ بعض التعريفات تراها جنسًا جامعًا للعديد من أشكال كتابة الذات (كاليوميات، والمذكرات)، والبعض تراها جزءًا من كتابة الذات، وهذا ما أميل إليه، ولعلَّ أقرب تعريف لطبيعة السيرة الذاتية الأدبية (Auto-biography) هو تعريف فيليب لوجون (Philippe Lejeune) بأنها: "حكيٌ استعاديٌّ نثريٌّ، يقوم به شخصٌ واقعيٌّ عن وجوده الخاص، وذلك عندما يركز على حياته الفردية، وعلى تاريخ شخصيته بصفة خاصة"، مع مراعاة تطورها على مستوى التشكيل والعرض."

وفي السياق نفسه تقول د. الحكمي لقد "أصبح الآن من المتفق عليه وجود نوعين رئيسين: (سيرة ذاتية) و(سيرة غيرية/موضوعية)، والغيرية واضحة المعالم؛ أي أن يكتب كاتب عن غيره". غير أن بعض الكتاب من وجهة نظرها "يدمج بين النوعين كما فعل عبد الوهاب المسيري في سيرته (رحلتي الفكرية) التي تضمنت عنوانًا رئيسًا، ثم عنوانًا فرعيًّا (سيرة ذاتية غير موضوعية)، ومن الأمثلة كذلك: سيرة مليكة خوفقير (السجينة) كتبتها بالشراكة مع مؤلفة أخرى هي ميشيل فيتوسي، بضمير المتكلم الذي عادة ما يوظفه كاتب السيرة الذاتية، وقرار المؤلفة بالشراكة هنا جعل النوعين الذاتي والغيري يتداخلان..".

وتضيف د. الحكمي: "أما السيرة الذاتية فهي جنس إشكالي ما يزال يحتاج إلى ضبط بعض الجوانب، مثل: الأنواع المتعارف عليها (ذكريات، مذكرات، يوميات، اعترافات، سيرة شخصية، قلمية، ذكريات شخصية، أو مذكرات، أو حكاية ذاتية، أو قصة شخصية، إلخ)، ويختلف الباحثون حيالها كثيرًا، لذلك دائما ما يتردد السؤال: هل كل نوع من الأنواع المتعددة للسيرة الذاتية يحق له يكون نوعًا مستقلًا أم هو جزء من المصطلح الأم (سيرة ذاتية) التي تدخل السيرة الذاتية في نسيج خيوطه؟" وترى د. الحكمي أنَّ "الكاتب حر فيما يكتب سواء أدب آخر أو سيرة ، يكتب ما يرغب ويسمي ما يرى، ليأتي دور الناقد فيما بعد في البحث عن الجودة في النص السيري ومدى إلمام كاتب السيرة بمحددات السيرة الذاتية،" وتشدد بدورها على ضرورة "أن يكون الكاتب على وعي تام قبل الشروع في كتابة سيرته،" كما تشدد على دور النقاد في تجلية الضبابية التي تعتري مفاهيم السيرة الذاتية، والاتفاق على محددات أنواع السيرة، ونشرها وذيوعها، "لتجنب القلق الفكري عند أصحاب الاهتمام بالتنظير السيري من كتاب السيرة الذاتية، فالسيرة الأم (السيرة الذاتية) -من وجهة نظرها- مصطلح فخم جاذب، فيه شمولية ويحتاج إلى جهد فني وفكري وثقافي، فكاتبه يقدم للمتلقي مرجعيات، وحيوات شديدة الحميمية بصاحبها وفي ذات الوقت يقدم متعة أدبية فنية".


Comments


bottom of page