دلال نصرالله*
تستمد كتابة الأنا عند الكاتب الإيطالي إيتالو كالفينو من المكان بالدرجة الأولى، وهو ما كشف عنه في سيرته الذاتية التي كتبها في مقالات متفرقة ولم يستكمل جمعها أو نشرها في كتاب بسبب وفاته، وأثناء ترتيب أشيائه انتبهت زوجته إستر إليها، فجمعتها ورتبتها كيفما اتفق. في العودة إلى تلك المقالات التي تؤرخ لمرحلة سياسية مهمة من تاريخ إيطاليا، وكُتّابها يمكن أن نلاحظ مراحل تبلور وعيه بذاته من خلال علاقته بالعناصر والذكريات والأماكن التي صادفها في حياته وكوّنت هويته، وبالتالي حددت قدراته على التواصل مع الآخرين، والتعبير عن ذلك برموز لغوية تصل ذاته بالموجودات الخارجية لعوالمه.
توثيق إيتالو كالفينو لحياته ورقيًّا قائم على منطلق وجودي فيه بحث دائم، وسعي دؤوب لإيجاد إجابات عن أسئلة أقضت مضجعه، وجعلته في حال انتقال دائم فعلي وروحي لاستكشاف العلاقات بين الذاكرة، والمكان، والرغبة. رحلة الترحال الفردية هذه نحو المعرفة -سواء أكانت مادية أم معنوية- قد رَدّته إلى ذاته فأصبح وجهًا إلى وجه مع أناه الحقيقية، ما قوّض كل المُسلّمات التي آمن بها في حياته؛ مُسلّمات آمن ببعضها طوعًا وببعضها الآخر إجبارًا. رحلة إيتالو كالفينو نحو ذاته قادته إلى اكتشاف أنّ لا منطق ولا معنى في التاريخ؛ إذ يقول في فصل «مذكرات أمريكية» من كتابه ناسك في باريس:
"صارت الحرب بلمح البصر مسرحًا لحيواتنا نحن الشعب، وشغلنا الشاغل. وجدنا أنفسنا منغمسين في السياسة؛ بل التاريخ، دون أن نختار ذلك. وكيف كانت نتيجة كل ذلك الصراع الذي أغرق أوروبا في حمام دم، وما أهميته للعالم ولمستقبل كل فرد منا؟... نشأت بتفكير يؤهلني لأكون مُعارضًا صحو الضمير بدل أن أكون مقاتلًا، لكن دونما سابق إنذار وجدتني وسط أكثر المعارك دموية. لم يملك جيلنا وقتًا ليكون إحساسه الداخلي بالمأساة؛ ذلك لأنه قد وجد مأساة خارجية شُيّدت بإتقان في الواقع."
استخدام كالفينو لضمير المتكلم (أنا) في كتابة سيرته الذاتية فيه إشارة إلى وعيه بوجوده المتفرد، ومصداقيته مع ذاته إذ تجنب الحياد في معظم حديثه، وأمعن في تأثير محيطه الاجتماعي والعمراني فيه، وتآلفه مع المكون الاجتماعي.
انتقال كالفينو بين الأماكن في أزمنة مختلفة كوّن لديه مفهومًا يخصه عن المدن ناشئ من التصادم بين المدن في الواقع والمدن التي في مخيلته. تغير دائم انعكس على كتاباته التجريبية في كل الأجناس، وصيرورات لا نهائية تحققت على مستوى النص وفي تجربته الواقعية. "واقع بنكهة خيالية" و"خيال بنكهة واقعية" حسب تعبير الكاتب الإيطالي إليو فيتوريني. بهذه التوليفة سرد كالفينو حكاياته ونحت اللغة الإيطالية ولهجاتها.
لعل إقدامه على تدوين سيرته الذاتية يُمثّل جوهر بحثه عن أناه في تحولاته العمرية بعدما تعاقبت عليه السنون، وتصوّرًا للإلمام بحقيقة الحياة عبر منح الأنا وعيًا جسّده في الكتابة، وصدى ألغى الأصوات الأخرى جميعها. بعد انصرام الأعوام، يتذكر كالفينو مسألة مهمة:
"بين الفينة والأخرى، أقرر كتابة قصص تدور أحداثها في نيويورك، وهي مدينة عشت فيها بضعة أشهر من حياتي. لا أعرف السبب؛ ربّما لأن نيويورك هي أبسط مدينة –بالنسبة لي على الأقل– وهي صورة نموذجية لما يجب أن تكون عليه المدينة بسبب طبوغرافيتها، وشكلها البصري، ومجتمعها المهم. أما باريس فهي مخيفة؛ أعني صورة باريس؛ لا المدينة ذاتها. لكن ما إن تطأها قدماي حتى تصبح مألوفة".
في استخدام ضمير المُتكلّم تقليل للمسافة الفاصلة بين الراوي والشخصية المحورية، ما يسمح للراوي بسبر ذاته والتحدث باسمه؛ وذلك لتآلفه مع البطل فأصبحا ذاتًا واحدة احتواها النص.
استشعار الأنا كتابةً يجسّد رحلة السعي نحو البحث عن معنى الوجود، والاستفهام عنه تآلف مع مضمون النص لأن قد صُبغ بصبغة هويّة تاريخية واقعية ابتدأت وانتهت بأناه. عَوْدٌ على الماضي، ثم العودة منه إلى الحاضر مُحمّلًا برؤى مُتجدّدة وخبرات ثرية.
وعلى عكس إدوارد سعيد: الذي أراد: "تجسير المسافة بين بين الزّمان والمكان"1 عبر تدوين ما عاشه، فإن الكتابة بالنسبة لكالفينو استشعار لمسؤوليته نحو الكون؛ فالبشر بنظره جزء من سلسلة تبدأ في باطن الذرة أو في مرحلة تسبق تكوين المجرات، وهي التي منحتهم أفعالًا وأفكارًا تتوق للتواصل مع من سبقوهم أو سيتلونهم في العيش على الأرض. كما لو أن لأناه كثافة وجودية كامنة في متن نصوصه، لكنها قادرة على الانصهار في وجود الآخرين. ولهذا فإن تقييد السيرة الذاتية عند كالفينو تحقيق لاستمرارية الزمكان في غدو ورواح بين ذات المرء وذوات الآخرين.
أنا إبداعية لا تفنى أفكاره حتى لو مات صاحبها. قال ميخائيل نعيمة في مذكراته2 عنها: [الأنا] هي "النافذة التي تطل منها علي ذاتك وعلى الكون الذي لا وجود له إلا في ذاتك فعلى قدر ما تتسع نافذتك أو تضيق يتسع الكون الذي تعيش فيه أو يضيق".
تحوّل خبرات وآراء إيتالو كالفينو الموضوعية إلى موضوع، وحيّزًا تتشكّل فيه ذاته مرجعه هوّية ذاته ولها علاقة وثيقة بالمجتمعات التي أقام بها ولعله مساحة أمان من خطر العالم الخارجي؛ أي أنه "امتداد في الزمن يجمع كل الخبرات التي عاشها الفرد في منحنى العمر الزمني والعقلي والوجداني، عندما تتحول إلى آليات وديناميات للذات"3.
كما أن اكتشافه لذاته بعد الحروب وفترة الفاشية الأليمة بمنزلة انتصار قد لا يتحقق لمعظم الناس. طاقة متدفقة دفعته إلى التغلب على معوقات الحاضر وتذكر طفولته في بعض الأحيان. إنّ في توثيقه لسيرته توسيع لنطاق تجربته الذاتية، وتأثير في القارئ لأنه سيكون جزءًا من عملية إعادة تشكيل الأحداث الغائبة، فالكتابة حوار متواصل مع القارئ أيضًا الذي ستنعكس ترسباته المعرفية على هذا النص.
سيرة كالفينو مُحفزة على قراءتها وقراءة ما يتصل بها، لأنه استخدم هذا الجنس الأدبي للتعبير عن أناه الحقيقية دون تزييف، ورغم هذا فهي لا تندرج تحت أدب الاعترافات. لعل من الأسلم التعامل معها على أنها سيرة ذاتية غير مكتملة. إنها خلاصة تجربته، وترجمة لذاته في آن واحد.
لا مناص من الإشارة إلى علاقة كالفينو بالأمكنة؛ فهي المجال الذي تتحرك فيه الشخصيات وتجري فيه الوقائع. للمكان من منظور تأويلي قوة كامنة تُحدّد الأقدار التي ستتقاطع بشكل أو بآخر. ولكالفينو رؤية خاصة تميزه بهذا الشأن:
"امتلكت منزلًا في باريس منذ بضعة سنوات، حيث كنت أمضي فيه جزءًا من العالم، لكن حتى هذا اليوم لم تظهر باريس في أي من كتاباتي. ربما علي أن أغادرها لأتمكن من الكتابة عنها؛ فأفضل الكتابات أساسها الفقد أو الغياب أو الانغماس فيها، ولأحقق الانغماس علي أن أعيش فيها منذ طفولتي... لذلك يجب أن يكون المكان أرضًا داخلية فيها ليعتاد الخيال التكون فيها، وليُحوّل هذه الأرض إلى مسرحه."4
ختامًا، سيرة كالفينو ناسك في باريس بأبعادها المتفاعلة تتسم بطابعها الانتقائي للأحداث مرورًا بمحطات الزمن منذ الطفولة وحتى ساعة تدوينها، وهي شهادة شاهد عيان على زمن ولى من خلال سرده بازدواج باطني وظاهر للملمة شتات أناه.
1. سعيد، إدوارد (2000). خارج المكان. بيروت: دار الآداب. تر: فواز طرابلسي. ص 22.
2. نعيمة، ميخائيل. (1979) سبعون. بيروت: دار العلم للملايين ص 836.
3. شرف، عبدالعزيز، (1991). أدب السيرة الذاتية. القاهرة: الشركة المصرية العالميـة للنـشر.
4. كالفينو، إيتالو. ناسك في باريس. الرياض: دار أثر. تر: دلال نصرالله. ص 188.
*مترجمة أدبية باللغتين الإيطالية والإنجليزية، ومديرة وكالة كلمات، ومُحررة في سلسلة إبداعات عالمية في الكويت. صدرت لها 17 ترجمة، من أبرزها: لماذا نقرأ الأدب الكلاسيكي لإيتالو كالفينو.
Comments