د. صالح بن معيض الغامدي*
السيرة الذاتية من الفنون الأدبية القديمة، عرفتها كل الشعوب تقريبًا بأشكال مختلفة وتحت دوافع مختلفة، وذلك رغبة في تخليد سيرة الفرد وإنجازاته وتجاربه في الحياة، وهي رغبة نجدها متجذرة لدى الإنسان، وطبيعة جبل عليها. ومن تلك الثقافات التي عرفتها واحتفت بها الثقافة العربية الإسلامية وأخرجت لنا أعمالًا سيرذاتية جميلة، وأبدى العرب والمسلمون اهتمامًا واسعًا بالسيرة، ثم لقيت بعد السيرة الذاتية اهتمامًا وازدهارًا في الثقافات الغربية وبخاصة بعد ظهور الحركة الرومانسية وما دعت إليه من احترام للفرد والفردانية عندما جعلتهما قطب الرحى. وفي العصر الحديث تجدد الاهتمام بالسيرة الذاتية وكتابتها في العالم العربي بأشكال مختلفة وتحت دوافع متعددة، أغلبها أقرب إلى النموذج الغربي منه إلى النموذج العربي الإسلامي القديم، ونالت السيرة الذاتية مكانة مرموقة في خريطة الأجناس الأدبية في الأدب العربي الحديث. والأدب السعودي هو أحد فروع الأدب العربي الحديث التي اهتمت بالسيرة الذاتية إبداعًا ونقدًا، ولو أن هذا الاهتمام بدأ متأخرًا نسبيًا، فقد كتب بعض الأدباء السعوديين سيرهم الذاتية منذ منتصف القرن العشرين تقريبًا، وتزايدت أعداد كتابها وكاتباتها مع مرور الوقت فبعد أن كانت البداية، وفقًا للدكتور عبدالله الحيدري، بسيرة واحدة كتبت بشكل روائي عام 1954م بعنوان " أبو زامل"، أصبح العدد الآن ما يقرب من 150 سيرة ذاتية، وفقًا للإحصائية التي قام بها الدكتور الحيدري وزودني مشكورًا بنسخة منها، وهو أحد أبرز نقاد السيرة الذاتية بالمملكة والعالم العربي. وأخذت السيرة الذاتية تحتل مكانة مرموقة في أدبنا السعودي الحديث، وتشهد المملكة العربية السعودية هذه الأيام حقيقة ازدهارًا غير مسبوق في مجال السيرة الذاتية إبداعًا ونقدًا.
والسيرة الذاتية في أبسط تعريفاتها هي " أن يكتب الإنسان قصة حياته بقلمه"، أما كيف، ولماذا، ومتى، ولمن …إلى آخره؟.، فهي أسئلة يختلف الأدباء والنقاد في الإجابة عنها تبعًا لقناعتهم الذاتية وأحيانًا الموضوعية، ولا مجال للخوض فيها هنا لمحدودية المساحة المتاحة في هذا المقال. وهذا ربما ينطبق على المسميات الأجناسية المتنوعة الأخرى لهذا الجنس الأدبي مثل المذكرات والذكريات واليوميات … إلخ وغيرها، فهناك اختلاف بين في تعريف كل نوع من هذه الأنواع ولا مجال للتوسع في ذلك، لكن نكتفي بالقول إننا نستعمل مصطلح "السيرة الذاتية" هنا مصطلحًا جامعًا لكتابة الذات أو الحياة الذاتية بأشكالها كلها.
وينبغي أن ندرك حقيقة مهمة ونحن نتحدث عن السيرة الذاتية في الأدب السعودي، وهي أن الكتابة عن الذات كانت حاضرة باستمرار منذ نشأة الأدب السعودي فقد كتب الأدباء والأديبات حياتهم أو أجزاء متفرقة منها بطرق مختلفة وتحت عناوين أجناسية كتابية مختلفة مثل الرسالة والرواية والقصة القصيرة … إلى آخره، وذلك لأسباب اجتماعية ودينية كان يُعتقد أنها تقف ضد هذا النوع من الكتابة.
كما ينبغي أن نشير هنا إلى الطبيعة البينية للسيرة الذاتية، من حيث كتابها ومضامينها بل وحتى أساليبها، فالسيرة الذاتية في السعودية تكتبها شريحة عريضة من فئات المجتمع ذكورًا وإناثًا، يكتبها الأديب والمؤرخ والطبيب والسياسي وعالم الاجتماع وتاجر العقار …. إلى آخره.، وعادة ما تترك هذه الخلفيات المهنية وغيرها لكتاب السيرة الذاتية وكاتباتها أثرها الملحوظ في السير التي يكتبونها شكلًا ومضمونًا.
وبالرغم من الطبيعة الذاتية لهذا النوع من السير، إذ تركز على سرد تجارب الفرد الحياتية الخاصة، إلا أن عددًا لا بأس به منها يولي الشأن الاجتماعي العام اهتمامًا كبيرًا، فكثيرا ما تكون السيرة الذاتية قصة لحياة الكاتب وشهادة على عصره في آن معًا.
وعلى الرغم من سيطرة الرجل على كتابة السيرة الذاتية مدة ليست بالقصيرة، فقد بدأت المرأة تكتب سيرتها الصريحة المباشرة بعد أن كانت تتقنع ببعض الأجناس الأدبية الأخرى مثل الرواية والقصة القصيرة في كتابة ذاتها، وربما تعد سيرة مرام مكاوي "على ضفاف الهايدبارك: مذكرات طالبة سعودية" الصادرة عام 2000م أول سيرة ذاتية نسائية صريحة في السعودية، تلاها ظهور مجموعة من السير الذاتية النسائية الأخرى التي صدرت في أوقات متقاربة وهي "أربعون في معنى أن أكبر" 2000م لليلى الجهني، و "أشق البرقع أرى" لهدى الدغفق و "ماضي مفرد مذكر" لأميمة الخميس الصادرتين عام 2011م. وهكذا تتابع ظهور السيرة الذاتية النسائية مع السير الذاتية التي يكتبها الرجال، ولو أن وتيرة ظهور السير الذاتية النسائية قد خفت في الآونة الأخيرة مقارنة بسير الرجال، وربما يعزى ذلك، جزئيًا على الأقل، إلى ظهور برامج التواصل الاجتماعي مثل سناب شات وتويتر والفيس وغيرها واتخاذ النساء منها منصة رئيسة للكتابة عن يومياتهن وحياتهن بشكل عام. وأهم ما يميز السيرة الذاتية النسائية في السعودية علائقيتها الواضحة إذ تُولى علاقات كاتباتها بأفراد أسرهن ومجتمعهن بشكل عام عناية فائقة، وتبدو أقل تمركزًا على الذات من السير الذاتية التي يكتبها الرجال.
وما دمنا أشرنا إلى العلاقة التي تربط بين وسائل التواصل الاجتماعي والتقنية بالسيرة الذاتية، فلا بد أن نشير هنا إلى أن وسائل الاتصال المرئية مثل التلفاز وغيرها من وسائل التواصل الاجتماعي قد ساهمت في الاهتمام بالبرامج السيرذاتية وروجت للسيرة الذاتية المرئية/ البصرية بشكل واسع، فظهرت برامج سيرذاتية تلفازية وما زال بعضها مستمرًا، تحكي بطرق مختلفة سير بعض أعلام الفكر والأدب والسياسية من الجنسين الذين يسهمون هم أنفسهم فيها إسهامًا كبيرًا، وقد جعلت هذه البرامج من الحديث عن الذات أمرًا عاديًا وربما مقبولًا، بعد أن كان أمرًا غير مرغوب فيه. وأصبحنا نرى اليوميات الشخصية البصرية تنتشر في وسائل الإعلام والتواصل وتلقى رواجًا من الجمهور. ولسنا هنا بطبيعة الحال في معرض تقويم هذا النوع من البرامج السيرذاتية الرقمية والإلكترونية ولا حتى السير الذاتية الورقية، فالسيرة الذاتية في المملكة لها ناقداتها ونقادها الذين ساهموا إسهامًا واسعًا في دراستها بشتى أنواعها، ولا مجال لذكر هؤلاء النقاد كلهم هنا لضيق المساحة المخصصة لهذا المقال.
ولا يمكن ونحن نتحدث عن السيرة الذاتية في السعودية تجاوز إشكالية السيرة الذاتية والرواية، فقد قُرئ عدد لا بأس به من الروايات السعودية قراءة سيرذاتية، مفادها أن كتاب الرواية وكاتباتها يتخذون من الرواية قناعًا لكتابة سيرهم الذاتية التي لا يستطيعون كتابتها مباشرة لأسباب اجتماعية وأسرية وغيرها. وعلى الرغم من وجود حالات، تقنّع فيها كتابها بالرواية للحديث عن أنفسهم، فإن قراءة الروايات قراءة سيرذاتية ربما جنت على هذه الروايات وعلى كتابها أخلاقيًا؛ عندما ربطت حرفيًا بين بطل الرواية وكاتبها مهما كانت الصورة التي صور بها البطل في الرواية، وفنيًا؛ لأن مثل هذه القراءات تبدو سطحية وبسيطة، تتهرب من قراءة النصوص الروائية قراءة تحليلية جادة، كما سبق أن بينت في إحدى دراساتي.
ولتفادي هذه الإشكالية نجد أن بعض الكتاب السعوديين والكاتبات مثل هند عبد الرزاق في كتابها "سيرة الحب: ذات غيرية" 2015م، وسعيد السريحي في كتابه "الحياة خارج الأقواس: سيرة ذاتية للمدعو سعيد" 2020م، قد لجؤوا إلى كتابة ما يعرف بـ"التخييل الذاتي" الذي يمكّن الكاتب من المزج بين الحقيقة والخيال في نصوصه السيرذاتية بطريقة واعية، ويبدو وكأنه يقول لنا، كما ذكر هيوز: "هذا أنا ولست بأنا" في آن معًا. ولأن التخييل الذاتي هو مصطلح ستتولى الحديث عنه إحدى الزميلات في هذا العدد من سياق، فسأكتفي هنا بهذه الإشارة اليسيرة التي ترتبط بالسيرة الذاتية السعودية.
وبالاطلاع على عدد لا بأس به من السير الذاتية السعودية، ليس ثمة نموذج شكلي أو بنائي واحد يتبع في كتابتها، بل تبدو متفاوتة في بنياتها وفي منهج كتابتها، وذلك بتوظيف أنظمة سردية ووصفية متنوعة كرونولوجية و موضوعاتية (ثيماتية) ومكانية وشذرية … إلخ، أو مزيج منها.
أما فيما يتعلق بالمضامين فهي أيضا متفاوتة، فبينما نرى بعض الكتاب يركز على سرد تجربته الذاتية متناولًا باقتصاد ما لها من أبعاد اجتماعية وعلائقية، نرى بعضهم الآخر يغلب الأبعاد الاجتماعية الخارجية على حساب تجربته الحياتية الخاصة حتى تغدو سيرهم أشبه بشهادة عن المجتمع أو العصر، وهناك أيضا من يحاول تحقيق نوع من التوازن بين الأمرين.
أما دوافع الكتابة فهي في أغلبها دوافع تقليدية، أغلبها مرتبط بالاستجابة لطلب صديق أو قريب، أو الحرص على إفادة الآخرين وبخاصة الأبناء والأحفاد، أو تبيان المكانة التي يحتلها الكاتب في مجال تخصصه أو عمله، ربما من باب التحدث بنعمة الله، وربما ورد الدفاع عن الذات دافعًا للكتابة أيضًا. لكن قلما يكون الدافع هو تحرير المشاعر غير المرغوب فيها، أو اكتشاف الذات وتقويمها، أو الاعتراف بجوانب الضعف فيها، أو الدفاع عن حقوقها وشؤونها، كما نجد في بعض السير الذاتية النسائية.
لقد حظيت السيرة الذاتية في المملكة باهتمام قرائي ونقدي واسع، تزايد مع تزايد أعداد هذه السيرة الذاتية، فقد تخصص مجموعة معتبرة من الدارسين والدارسات في دراسة هذا الجنس الأدبي المهم باستفاضة في رسائلهم العلمية أو دراستهم ومقالاتهم إلى حد جعل د. عبدالله الحيدري يعمل مسردًا ببليوغرافيا بالأطروحات الجامعية التي كتبت عنها، وجعل إحدى الدارسات وهي د. خلود الأسمري تكتب أطروحتها لدرجة الدكتوراة حول نقد السيرة الذاتية في المملكة العربية السعودية. وعُقدت كذلك عدة مؤتمرات علمية سعودية حول هذا الجنس الأدبي، فقد خصص نادي جدة الأدبي ملتقى قراءة النص لعام 2008م للسيرة الذاتية السعودية، وعقد النادي الأدبي بالرياض ملتقاه النقدي عام 2018م، وخصصه لنقد السيرة الذاتية في المملكة، وعقد نادي القصيم الأدبي ملتقاه لعام 2023م، وخصص للسيرة الذاتية واليوميات والمذكرات في المملكة العربية السعودية. بل إن بعض الجهات العلمية مثل كرسي الأدب السعودي قد أصدر عدة كتب ودراسات خصصت لهذا الجنس الأدبي، وكذلك كرسي غازي القصيبي الذي خصص جائزته لفرع الأدب لعام 2021م للسيرة الذاتية، وفاز بها د. حمزة المزيني على سيرته الذاتية "واستقرت بها النوى".
أما حاضر السيرة الذاتية فيشهد ازدهارًا واسعًا، وربما لا نبالغ إذا ما وصفنا هذا الازدهار بـ "الطفرة السيرذاتية" غير المسبوقة حقيقة، فأعداد السير الذاتية التي تُنشر في المملكة العربية السعودية ربما تفوق طاقة الدارس أو الناقد في متابعتها، ونتوقع أن يتعزز هذا النمو لهذا الجنس الأدبي في المستقبل القريب ويتزايد عدد كتابها وقرائها، ونتوقع أن نرى أشكال سيرذاتية جديدة مكتوبة ومرئية ومسموعة ورقمية، وربما يُوظف الذكاء الاصطناعي في كتابتها في القريب العاجل أيضًا.
*أستاذ الأدب والنقد، قسم اللغة العربية وآدابها، جامعة الملك سعود.
Comments